صدر حديثا كتاب بعنوان " سليمان الراجحي: منظومة حياة " الذي جاء صورة حية لرحلة حياة الشيخ سليمان بن عبدالعزيز بن صالح الراجحي، في تسع وأربعين وأربع مئة صفحة من القطع الكبير، صادر عن دار الزازان للنشر، متضمنا عشرات الموضوعات التي رواها وأملاها الشيخ سليمان بن عبدالعزيز الراجحي، في طبعة أولى 2013م حيث خصص ريع الكتاب لمؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الراجحي الخيرية. ومن الموضوعات التي تضمنها الكتاب: القوة والرؤية، البكيرية 1929م المشهد والامتداد، الرياض.. الاغتراب والتكوين، الطريق إلى الرياض، الوصول، اكتشاف المدينة، صور من شوارع الحارة الخلفية، أبي ورقة التين وطبيبا المدينة.. ومناظر أخرى مهمة، متع المدرسة ومضايقاتها، البذرة الأولى.. بضع هللات على ظهر خيشة، انتهاء موسم الأرز المجفف.. الثمرة الأولى. و في حكاية " إلهام من بائعات الزبدة" عبر منظومة حياة الشيخ سليمان الراجحي، يقول فيها: لا شيء كان يجعلني أجلس مكتوف اليدين وسط قسوة هذه الحياة التي وجدنا أنفسنا فيها، وقد كنت مضطرا لخوض غمارها.. وأنا طفل صغير.. لم تأسرني الدراسة كثيرا، فقد كنت أكثر ميلا إلى العمل في كل وقت، وطوال تلك السنوات الأولى في الرياض تنقلت في عدة أعمال مختلفة، كان القصد منها المشاركة في توفير لقمة العيش لي ولعائلتي في عام 1939م كنت أمر كثيرا بجانب قصر الحكم، وكنت ألاحظ أن نساء يجلسن في زواياه يبعن الزبدة، التي كانت قيمتها لا تتجاوز القرش. ويمضي الراجحي في سرد تفاصيل هذه الحكاية قائلا: فكرت أن أتخذ إحدى هذه الزوايا مكانا لأبيع من خلاله بعض الأشياء، وقد رأيت أنه من الأنسب عدم التقليد ، فكنت أود بيع شيء آخر غير الزبدة، ولأن هناك حركة دائمة للبيع في ذاك المكان أحضرت صفيحة – تنكة – مليئة بالكيروسن وطرمبة وقطعة سيخ لاستخراجه – ما زالتا موجودتين عندي إلى اليوم – فشرعت في البيع ، واستخدمت القارورة كالمعيار للبيع، فهي تساوي الرطل أو اللتر، وكنت أضع ما أبيعه بوسط الصفيحة، وبنهاية كل عملية كانت الأرباح تصل إلى القرش أو القرشين. ويستطرد الراجحي في سرد تفاصيل هذه التجربة العملية قائلا: أذكر أني قمت في وقت لاحق بتنويع تجارتي، فبدأت في بيع الحلوى التي خصصت لها إناء منفصلا بعيدا بعض الشيء، وفي نهاية اليوم كنت أعود إلى البيت وكل ثيابي تفوح منها رائحة الكيروسين، حيث لا صابون عندنا لغسله، ثم إن ثوبي ذاك هو الوحيد عندي، فهو للدراسة والعمل والمناسبات، وكان هو غطائي الوحيد الذي يستر جسدي، لكن مع ذلك كنت سعيدا بما أحققه من أرباح ومشاركة في مصاريف البيت. هكذا تمضي تفاصيل هذه الحكاية وغيرها من الحكايات التي تروي قصة طموح لم يكن يقف أمامه مستحيل رغم المصاعب، ولم يكن ليتوقف مسيره رغم ما يحيط به من معوقات، ولم يكن ليقف عند تجربة رغم قلة الفرص التي من شأنها فتح أفق أمام رؤية تلوح في مخيلة عصامي أصر بعزيمة على اقتحام كل التجارب من حوله واختراق حواجز صعوباتها متخذا من تنوع مسالك التجارب جسرا يواصل من خلاله حياة عملية جعلت الراجحي متنقلا من عمل إلى آخر، ومن مكان إلى مكان، متلمسا عتبات الفرص، التي يروي الراجحي خلالها أنه مر في مختلف المهن وخاصة خلال الفترة 1939-1942م. كما يحدثنا شيخ العصامية عن تنقلاته بين أماكن العمل، بأنه انتقل إلى سوق المقيبرة ليعمل في بيع الحطب والجلة، وبأنه كان يقوم في أوقات أخرى ببيع الحطب، وفي أوقات بحراسة "بسطات" البطيخ عندما يذهب أصحابها مقابل قرش، وأحيانا يقوم بالعمل في حمل الحطب، أو توصيل الأغراض الشخصية إلى المنازل، إذ يقول الراجحي في هذا السياق: غالبا ما كنت أذهب للعمل كحمّال في أيام الخميس والجمع أو بعد العودة من المدرسة، والانتهاء من الأشغال الموكلة إليّ من والدي وأخي صالح، فكنت في الغالب أحصل على قرش أو قرشين اشتري بهما صاعا من طحين أو كرشة أو رأسا لأجل المرقوق. وتتواصل قافلة قصص المنظومة حاملة معها الكثير من تفاصيل الأحداث، وعصارة التجارب، وصور العزيمة على إكمال المسير، في تنوع يأخذك من حدث إلى آخر، ومن موقف إلى نظيره، ومن تجربة عمل إلى أخرى.. وكأنك تفتش في ذاكرة ما تزال أحداثها متقدة بما سلكته في دروب التجارب وميادين العمل، وكأن بساطتها المفعمة بالمصاعب وحياة الكفاف وتوفير لقمة العيش الكريمة، وتحقيق الربح بالهللة، تعيد الذاكرة إلى ما يجب أن يكون عليه من قرع أبواب التجارة، ومن أراد أن يسلك دروب التجارة، في وقت لا يمكن أن يجد معها المفارقات بسيطة، ليتخذ من الراجحي "النموذج" مثالا حقيقيا.. وتجربة واقعية.. وقصصا يصدق أحداثها نجاح بطلها سليمان الراجحي الذي تجاوز عقدة كل قصة من تلك القصص، ليكشف مع كل قصة غصة من المتاعب، عادة ما كان يصنع مرحلة "التنوير" فيها طعم ما يزال مذاقه في فم بطل منظومة الحياة إلى اليوم! ومع ما تميز به الكتاب، من جودة الصياغة، وحسن العرض، وبساطة العرض ليخاطب أكبر شريحة من القراء بمختلف اهتماماتهم، وإلى جانب ما يمثله من " بانوراما " قصصية مشوقة، تتناغم فيها منظومة حياة البطل بالمكان، والزمان، والإنسان، والحياة بوجه عام، فقد جسد الكتاب رصدا جادا يتسم بالموضوعية، يسجل تجربة رجل اتصف بالعصامية، وقوة الإرادة والحكمة، والصبر والتميز، خاض أشد أنواع الكفاح، وضع أنظاره منذ وقت مبكر على هدف التنمية، فبدأ مشروعه النوعي المصرفية الإسلامية، إذ لم يكن المشروع أمرا سهلا، بل كان عملا مضنيا، استغرق أكثر من ستين عاما، تجاوز حجم الإنجاز إلى حجم الطموح، وجعل آمال الأمس بعون من الله – سبحانه وتعالى – وتوفيقه له حقائق ماثلة. وبعد أن يروي سليمان الراجحي قصة شركة الراجحي المصرفية للاستثمار.. كاملة، ويحكي قصة الانطلاق وسنوات الانتشار، ليحكي لنا المواجهة لتفادي الريح، يقف بنا صاحب منظومة الحياة – كالعادة – أمام محطة قصصية مشوقة – أيضا – حمل عنوانها " بين عملين" التي يقول فيها الراجحي: لم تكن سنوات عمري الطويلة في مجال الأعمال التي امتدت أكثر من ستين عاما كلها خالصة في مجال الصرافة والعقار، ففي خضم هذا الزخم كنت أخصص بعضا من وقتي وجهدي لإشباع بعض الاتجاهات عندي، وهو إشباع أردت من خلاله تحقيق الأهداف التي حددتها لنفسي.. خدمة للإنسان المسلم، وخدمة للوطن، وهذه الاتجاهات المتنوعة التي حينما أقرؤها اليوم أجدها في محتواها تكاد تكون أقرب إلى الشمولية.. فهي مجالات خدمية وصناعية وزراعية وخيرية، والقائمة طويلة ممتدة بامتداد سنوات عملي، وهي بالمناسبة سنوات لا يمكن حصرها في الستين عاما فقط إذا نظرت إلى البدايات الأولى في العمل مع والدي – رحمه الله – منذ أن كنت طفلا صغيرا ثم صبيا يافعا. إن من يتتبع القصص ومسيرة هذه المنظومة يجزم بأنها ضرب من حياة مليئة بالكدر الجراح والمتاعب وشظف الحياة، وخاصة عندما نطالع إحدى المنظومات القصصية التي جاءت بعنوان " تحولات الأمس واليوم" نجد الأمور تروى خلافا لما جرت العادة بتوقعه بوصفه مقارنة لا تحتمل تقاربا بمختلف ما استجد من تحولات بين الأمس واليوم، التي يقول عنها الراجحي: يقولون إن الذكريات الأولى تنطوي عادة على جرح، أما عندي فتبدو هذه العبارة في غير محلها. فحينما أجلس اليوم لأتذكر تفاصيل الحياة التي كنت أعيشها قبل أكثر من سبعين عاما، وأقارنها بما أنا عليه اليوم، لا أملك إلا أن أقول ما كنت أردده دائما إن الإنسان كائن نهم لا يشبع، وإن رغباته دائما في ازدياد وانفتاح، ولعل الصورة تكون أكثر وضوحا عندي حينما أبدأ بتتبع مراحل حياتي بدقة. وإذا ما تتبعنا في الإصدار "قصة الأمس" عند الراجحي وجدنا أن لها رؤية أخرى، ووقفات تأملية لا يمكن إلا أن تكون مختلفة حتما، ونافذة يطل بنا من خلالها ليست مجرد نافذة تشرف على مجرد مسيرة عقود من الذكريات.. إذ يجيب سليمان الراجحي على سؤال " لماذا عليّ خلع ثوب الأمس؟ " بأننا نحتاج كثيرا إلى أن نتذكر تفاصيل الأمس، ليس للتلذذ بأيامه أو الأسى على أحزانه، لاسيما أن الإنسان الشرقي يعشق ماضيه بقوة، ولكن لأننا نحتاج بين وقت وآخر إلى إعادة التوازن إلى حياتنا.. مردفا قوله: ولأن هذا مهم عندي فإن تفاصيل حياتي السابقة حاضرة دائما في ذهني، أعتمد عليها في الثبات على منهج حياتي، إن الشكر كلمة لله، وشكر الله - سبحانه وتعالى - يشمل عدم الجحود بنعمته، وعدم الإفراط فيها، فما يضير الإنسان لو تذكر معاناة الفقر.. والجوع.. والتعب.. والحاجة.. والفاقة التي مر بها في حياته؟! وما يضيره أن يعترف؟!