حظي القضاء في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بعناية خاصة تمثلت بمظاهر التطور المتميز الذي عم القضاء باجراءاته ومؤسساته ورجاله، حيث تمثلت هذه المظاهر بتتابع بناء منظومة الانظمة القضائية الخمسة وهي: نظام القضاء ونظام هيئة التحقيق والادعاء العام ونظام المرافعات ونظام الاجراءات الجزائية ونظام المحاماة. وفي تقرير حول تطور الانظمة القضائية في المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - للدكتور عبدالله بن صالح الحديثي وكيل وزارة العدل للشؤون القضائية، قال في مقدمة التقرير ان الشريعة الاسلامية جاءت لتحقق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، ولاشك ان المجتمع الانساني هو إحدى الوسائل المحققة لهذه المصالح واضاف عندما قامت الدولة السعودية التي اتخذت من العدل اساساً للملك اصبح القضاء في مقدمة اهتمامات ولاة الامر فيها على تعاقبهم حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -. واشتمل التقرير على عرض للتطور التشريعي في مجال القضاء في المملكة بداءً من صدور اول مرسوم منظم للقضاء بعد توحيد المملكة، حيث صدر ما يسمى بنظام تشكيلات المحاكم الشرعية في 4/1/1346ه . وفيما يلي عرض للتقرير: اولاً: التطور التشريعي في مجال القضاء في المملكة: بدأت مسيرة التطور التشريعي في مجال القضاء في المملكة بصدور اول مرسوم منظم للقضاء بعد توحيد المملكة، حيث صدر ما يسمى بنظام تشكيلات المحاكم الشرعية في 4/1/1346ه وهو مكون من 24 مادة، حيث انشئت محكمتان في كل من مكة والمدينة، اما في جده فأنشئت المحكمة الكبرى، ومحكمتان مستعجلتان، بالإضافة الى هيئة المراقبة القضائية، كما انشئت محاكم اخرى في ينبع والطائف وغيرها، وقد حدد هذا النظام اختصصات كل من هذه المحاكم. ثم صدر بعد ذلك اول نظام للإجراءات امام المحاكم الشرعية عرف بنظام سير المحاكمات الشرعية الصادر بتاريخ (29/2/1350ه) وهو مكون من (36) مادة، وقد فصل اجراءات التقاضي امام المحاكم الشرعية مستبدلاً بهيئة المراقبة القضائية هيئة رسمية اخرى برئاسة رئيس القضاة لتدقيق الإعلامات والأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية، والإشراف على سير الأعمال في جميع المحاكم. ولم تمض الا سنوات خمس على نظام سير المحاكمات الشرعية حتى تم الغاؤه بموجب نظام المرافعات الشرعية الصادر في (11/2/1355ه ) مكوناً من (142) مادة، منظماً لإجراءات التقاضي امام المحاكم. وفي (4/1/1357ه) صدر نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي ليحل محل نظام تشكيلات المحاكم الشرعية، وجاء النظام في (282) مادة موزعة على ثمانية ابواب منظمة للدوائر الشرعية والمحاكم وكتابات العدل ودوائر بيوت المال، وعمل بهذا النظام حتى عام (1372ه)، حيث صدر نظام آخر بنفس الاسم السابق بتاريخ (24/1/1372ه) مشتملاً على (258) مادة موزعة على ثمانية ابواب ايضاً وبذات الترتيب السابق، وفي عام (1372ه) الغى نظام المرافعات الشرعية الصادر في (11/2/1355ه) وذلك بموجب نظام سمى (بتنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية) وذلك بالتصديق العالي رقم (109) وتاريخ (24/1/1372ه) وقد اشتمل هذ النظام على (96) مادة وهو نظام شامل لتنظيم كثير من الأعمال الإدارية مع شيء من تنظيم الإجراءات القضائية امام المحاكم، ثم صدر نظام القضاء في (5/7/1395ه). وفي ظل هذه الأنظمة ظهرت الحاجة الى انشاء لجان ادارية ذات اختصاص قضائي وكثرت هذه اللجان وتعددت اختصاصاتها التي اثرت سلباً على اختصاص الولاية العامة للقضاء. وهذا عرض موجز لوضع تلك اللجان واختصاصاتها. ثانياً: تطور الأنظمة القضائية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بدأت مظاهر التطور التشريعي في مجال القضاء في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله - بتتابع بناء منظومة الأنظمة القضائية الخمسة، وهي: نظام القضاء، ونظام هيئة التحقيق والادعاء العام، ونظام المرافعات، ونظام الإجراءات الجزائية، ونظام المحاماة. وحيث صدر نظام القضاء في 5/7/1395ه - كما سبق ان اشير اليه - مشتملاً على مئة ومادتين (102) موزعة على سبعة ابواب شملت: استقلال القضاء وضماناته، والمحاكم وترتيبها، واختصاصها، والقضاة وشؤونهم، وكتاب العدل. وقد ورد في هذا النظام اشارة الى نظامي المرافعات والإجراءات الجزائية وذلك عند بيان اختصاصات المحاكم. ثم صدر بعد ذلك نظام هيئة التحقيق والادعاء العام بتاريخ 24/10/1409ه مشتملاً على ثلاثين مادة موزعة على اربعة ابواب، تتناول: انشاء الهيئة وتشكيلها واختصاصاتها وأعضاء الهيئة والعاملين فيها، وتأديب اعضاء الهيئة، وأحكاماً عامة، ثم صدر بعد ذلك نظام المرافعات الشرعية في 20/5/1421ه ، وهو مكون من (266) مادة موزعة على خمسة عشر باباً شملت: احكاماً عامة، واختصاص المحاكم النوعي والدولي والمحلي، ورفع الدعوى وقيدها، وحضور الخصوم وغيابهم، وإجراءات الجلسات ونظامها والدفوع والإدخال والتدخل والطلبات العارضة، ووقف الخصومة وانقطاعها وتركها، وتنحى القضاة وردهم عن الحكم، وإجراءات الإثبات، والأحكام، وطرق الاعتراض على الأحكام، والحجز والتنفيذ، والقضاء المستعجل، وتسجيل الأوقاف والإنهاءات، وأحكاماً ختامية. كما صدر نظام المحاماة في 28/7/1422ه ، مكوناً من (43) مادة موزعة على اربعة ابواب، ومشتملة على تعريف مهنة المحاماة وشروط مزاولتها، وواجبات المحامين وحقوقهم وتأديب المحامى وأحكام عامة وانتقالية، كما صدر في نفس التاريخ نظام الإجراءات الجزائية بتاريخ 28/7/1422ه مكوناً من (225) مادة. وبصدور هذين النظامين اكتملت منظومة الأنظمة القضائية، ويعد صدورهما بالإضافة الى نظام المرافعات نقلة حضارية في تطوير وتحديث اجراءات التقاضي، لاسيما انه قد روعي في اعداد هذه الأنظمة الثوابت التي قامت عليها هذه البلاد، مع الاستفادة من آخر ما توصل اليه فقه الإجراءات. وفي نطاق تطور الأنظمة القضائية المساعدة في العهد المبارك صدر نظام التحكيم، بتاريخ 12/7/1403ه ، كما صدرت قواعد المرافعات امام ديوان المظالم في 16/11/1409ه . وبنظرة متأملة لما شملته هذه الأنظمة الأصيلة منها والمساعدة؛ استطيع القول ان اجراءات التقاضي قد غطيت بجميع فروعها بأنظمة اجرائية حديثة مؤصلة وشاملة، الأمر الذي يترتب عليه استقرار الإجراءات ووضوحها، والقضاء على الاجتهادات التي قد لا يتحقق بها المقصود، اضافة الى تهيئة المجال لجهاز القضاء ليقدم خدماته للمستفيدين منها بشكل علمي وحضاري مؤصل، كما انه يمكن الجهة المختصة من مراقبة ومتابعة الأداء لهذا الجهاز، وسبر مواضع القصور او التقصير في ضوء وضوح المهام وتحديد المسؤوليات. ولاشك ان استقرار القضاء جانب مهم في استقرار الأحوال وصيانة المجتمع، بل ركن مهم من اركان بناء الدولة. مظاهر التوسع الكمي في المحاكم والقضاة: أولاً - القضاة: لقد تضاعف عدد القضاة؛ استجابة لحاجة التوسع، اذ بلغ عدد القضاة في عام 1422ه ما يقارب 900 قاض مقارنة بعددهم عام 1402ه البالغ 374 قاضياً مقسمين على درجات السلم القضائي، الذي يبدأ بملازم قضائي ينتهي برئيس مجلس القضاء الأعلى وهو بمرتبة وزير. ثانياً - المحاكم: كما تم التوسع في عدد المحاكم بزيادة طفيفة، اذ بلغ عدد المحاكم في عام 1422ه ما يقارب 300 محكمة مقارنة بعددها في عام 1402ه البالغ 270 محكمة. ثالثاً - اعوان القضاة: اعوان القضاة هم طائفة من الموظفين او من غير الموظفين يقومون بمعاونة رجال القضاة في تأدية وظائفهم ويعتبر من هؤلاء المحامين (الوكلاء في الخصومة) والخبراء وأمناء السر والمحضرون والمترجمون وكتاب الضبط. الكتبة: هم فئة من موظفي المحاكم العموميين، ولا خلاف في كونهم من مساعدي القضاة في الأعمال القضائية فيحضرون الجلسات، ويثبتون مجرياتها في محاضرهم، ويوقعون على نسخ الأحكام، ثم هم يمثلون المحكمة حين يتلقون صحف الدعوى والعرائض ويسلمون الصور العادية للأحكام والأوامر. كما انهم يقومون بتوجيه استدعاءات الخصوم او الاستدعاءات لمن تطلبه المحكمة من غير هؤلاء وحفظ الأوراق في مواضعها المخصصة. المحضرون: هم طائفة من الموظفين العموميين يقومون بإعلان الأوراق القضائية على اختلاف انواعها وتنفيذ الأحكام والسندات الرسمية. الخبراء: قد يحتاج النزاع المعروض على المحكمة اخذ رأى اهل الخبرة في بعض الأمور وذلك بالرجوع الى الخبراء في المسائل التي يراها القاضي غامضة ويستلزم الفصل فيها استيعاب نقطة فنية تحتاج الى استجلاء رأي متخصص مثل استيعاب الجوانب الفنية في الطلب والزراعة والهندسة والخطوط والمحاسبة وغيرها. ولدى بعض المحاكم مختصون في بعض الجوانب الفنية وهناك توجه للتوسع في هذا المجال. المحامون: ونستطيع الآن استعمال هذا المصطلح بعد صدور نظام المحاماة مؤخراً على نحو ما اشرت اليه، ونأمل ان يكونوا عوناً حقيقياً للقضاة في تحقيق العدالة ورافداً من روافد المؤسسة القضائية. ولاشك ان صدور نظام المحاماة سيقضي على سلبيات الممارسة الحالية التي تلاحظ على بعض الممارسين من الوكلاء الذين يسمون انفسهم بالمحامين، اذ وضع النظام شروطاً وضوابط لممارسة المهنة، وحدد معايير واعتبارات لابد من توفرها فيمن يرخص له. ثالثاً - الاتفاقيات التي ابرمتها المملكة مع دول العالم في مجال القضاء: معلوم ما للمملكة العربية السعودية من خصوصية وتميز في مجال القضاء وإجراءاته. فهي تطبق الشريعة الإسلامية وتحرص في شؤونها كافة على الالتزام والتقيد بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله. وهذا يشمل بطبيعة الحال - العلاقات الخارجية وما تدعو اليه من ابرام الاتفاقات وعقد المعاهدات. وفي مجال القضاة تم عقد عدد من الاتفاقيات منها ماهو على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي ومنها ماهو على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي ومنها ماهو على المستوى العربي، ومنها ما تم بين المملكة وبعض الدول بشكل انفرادي. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد تم عقد اول اتفاقية عربية شاملة للتعاون القضائي وهي (اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي) التي تم التوقيع عليها في اول مؤتمر لوزراء العدل العرب الذي عقد في المملكة في عام 1403ه ، وكان للمملكة بصمات واضحة في توجيه نصوص هذه الاتفاقية الى ما يتوافق مع احكام الشريعة الإسلامية، بل قد توقفت المملكة عن التصديق على هذه الاتفاقية اكثر من سبع عشرة سنة حتى تم تعديل بعض نصوصها بما يخدم هذا التوجه فتم التصديق عليها في 7/2/1421ه وفي اطار الخليجي ابرمت المملكة مع دول مجلس التعاون اتفاقية تنفيذ الأحكام والإنابات والإعلانات القضائية وتم التصديق على هذه الاتفاقية من قبل المملكة في 28/4/1417ه . وقد تم ابرام الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب التي وقعت بالاشتراك بين وزراء الداخلية والعدل العرب في جامعة الدول العربية بالقاهرة. وتم التصديق على هذه الاتفاقية من قبل المملكة في 10/6/1419ه . وهناك مشاريع لاتفاقيات قضائية بين المملكة وبعض الدول الإسلامية تحت الدراسة وبعضها قيد الإجراءات. اهم ملامح نظام المرافعات الشرعية: ٭ لم يقيد النظام القضاة بمصدر معين يستقون منه الأحكام، بل جعل لاجتهاد القاضي وإلمامه بالفقه الإسلامي دوراً اساسياً في تكوين قناعته عند اصدار الحكم في الدعوى المعروضة عليه دون التقيد بمذهب معين ولا بالراجح من هذا المذهب او ذاك، حيث نصت المادة الأولى منه على ان يطبق القضاة احكام الشريعة الإسلامية على الدعوى المنظورة دون ذكر لمذهب معين. ٭ انه يقوم على اساس وحدة القضاء كقاعدة عامة. بمعنى انه يعد الشريعة الإجرائية الأم التي يجب الرجوع اليها امام جميع محاكم المملكة، مالم ينص نظام خاص على ما يخالفه. كما انه يطبق على سائر المحاكم الشرعية بغير تفرقة. ٭ ان نظام المرافعات الشرعية قد راعى في رسم اجراءات التقاضي السهولة والبعد عن التعقيد وعدم المغالاة في الشكلية البحتة. ٭ ان النظام لم يقطع كل صلة بالماضي. بل اعتد، وبشكل اساسي، بما استقر عليه منذ وقت بعيد وبما الفه المتقاضون، بحيث ان اجراءات التقاضي امام المحاكم لا تختلف اختلافاً جذرياً عما اعتاد عليه الناس بموجب الأنظمة السابقة، حتى لا تضطرب المعاملات. ٭ ان النظام قد اعتد بالعديد من ضمانات التقاضي الأساسية التي تضمن حسن سير العدالة، ومن اهمها مراعاة احترام حقوق الدفاع. فنص على العديد من القواعد التي تكرس هذه الحقوق بشكل فعال. ٭ ان هذا النظام قد جاء، ولأول مرة، بتنظيم متكامل لقواعد التنفيذ الجبري التي تحقق الحلقة الخيرة من الغاية المنشودة من اجراءات التقاضي، وهي تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة تنفيذاً جبرياً على المحكوم عليه؛ وذلك ضماناً لاحترام احكام القضاء من ناحية وإشباع حاجة صاحب الحق اشباعاً فعلياً من ناحية اخرى، بحيث يتحقق عملاً القول المأثور للقاضي الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : «لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له». أهم ملامح نظام الإجراءات الجزائية: ٭ العناية بصياغة مواده ونصوصه بما يتوافق مع احكام الشريعة الإسلامية في ظل التوافق مع النظام الأساسي للحكم. ٭ نص النظام على انه لا يجوز توقيع عقوبة جزائية الا بناءً على حكم نهائي بعد محاكمة تجري وفقاً للوجه الشرعي. ٭ تحديد المدد اللازمة لإنهاء كل اجراء بشكل واضح يضمن التدرج في الإجراءات: الاستدلال، القبض، التحقيق، المحاكمة، التنفيذ. ٭ اشتمل على اسناد مهام التحقيق والادعاء الى هيئة التحقيق والادعاء العام طبقاً لنظامها. ٭ واشتمل النظام على نظر القضايا في محاكم مختصة بنظر القضايا الجزائية. ٭ حرص النظام على المحافظة على حرمة الأشخاص والمساكن، ووضحت نصوصه كيفية التعامل عند الحاجة الى جمع المعلومات او القبض او التفتيش. ٭ نص النظام في عدد من المواد على حق المتهم في الاستعانة بمحام. ٭ نص النظام على ان الحكم بالبراءة يجب ان يتضمن تعويضاً مادياً ومعنوياً للمحكوم عليه: لما اصابه من ضرر اذا طلب ذلك. ٭ ونص النظام على انه يجب ان تنتهي اجراءات التحقيق، ويحال المتهم الى المحكمة او يخلى سبيله خلال مدد محددة، اعلاها مضى ستة اشهر على القبض على المتهم، يتعين بعدها احالته الى المحكمة او اخلاء سبيله. ٭ كما نص النظام على ان عقوبات الإتلاف المحكوم بها لا تكون نهائية الا بعد تصديقها من مجلس القضاء الأعلى، اضافة الى تصديقها من محكمة التمييز. ٭ وفي تنفيذ الأحكام الجزائية اشار النظام الى ان ذلك ستنظمه اللائحة التنفيذية للنظام.