مثلتُ في بداية هذا القرن الهجري أمام إحدى المحاكم ووقفت أمام منصة القاضي ولم يكن قد دخل القاعة بعد، فور دخوله نهرني بصوت عالٍ متسائلاً «ليش واقف هنا؟ روح هناك». بعد أن سأل المدعي عن دعواه سألني عن ردي فأجبته بأن النظام في مادته كذا يقول كذا، أشاح بوجهه، واستدعى شهود المدعي ثم معرّفيهم، ثم وجه إليّ عبارات فهمت منها أنه سيصدر حكماً مخالفاً للنظام وعليّ الاستنجاد بمن أصدر النظام لوقف تنفيذ حكمه، وكان على حق فقد تم تنفيذ حكمه رغم مخالفته للنظام. حينها لم يكن هناك نظام مرافعات شرعية ولا نظام إجراءات جزائية ولا نظام قضائي يعدد درجات التقاضي ولا نظام للمحاماة، ولا شروع في تدوين الأحكام. المفارقة، أن ما يدور في لقاءات المحامين في وقتنا الحاضر، رغم صدور كل هذه الأنظمة، يشير بوضوح إلى أن التنافر بين القاضي والمحامي لا يزال يطل بوجهه عبر الجدار الزجاجي الذي يفصل بينهما، رغم كل ما يقال بأن المحامي مساعد القاضي، وأن المحامي هو القاضي الواقف وأن هناك فصلا ًكاملاً في نظام المحاماة خاصاً بتأديب المحامين المتجاوزين لآداب المهنة وحصانة القضاء. ورغم أن المادة (19) من نظام المحاماة تنص وجوباً على الجهات القضائية والدوائر الرسمية وسلطات التحقيق أن تقدم للمحامي بعد التأكد من وكالته التسهيلات التي يقتضيها القيام بواجبه، وألا ترفض طلباته دون مسوغ مشروع، ورغم تدوين هذا النص خلف البطاقة الشخصية للمحامين الصادرة من وزارة العدل، إلا أن كثيراً من الجهات القضائية وسلطات التحقيق لا تحترم هذا النص، بدعوى أنه لم يعمّم عليها من مرجعها. نسمع كثيراً عن المواقف المتباينة بين القاضي والمحامي، بعضها مبالغ فيه حتماً، لكنها تبقى مؤشراً على وجود ذلك الجدار الزجاجي الذي يرى كل منهما خلاله الآخر دون أن يسمعا أصوات بعضهما. هذا التوتر في العلاقة ينعكس سلباً على التقاضي موضوعاً وإجراءات مما يؤدي إلى إطالة أمد المشاحنة بين الخصوم والفصل في الدعوى، ويسمّم أجواء التكامل بين القاضي والمحامي ويصيب خاصرة العدالة. كثيرة هي الروايات والقصص التي يرويها المحامون عن موقف بعض القضاة منهم ومنعهم بالتهديد بالحبس أربع وعشرين ساعة، إذا ما جادلوا القاضي في مسألة تتعلق بموضوع الدعوى أو إجراءات التقاضي، مما يحرمهم من أداء المهمة التي وكّلوا من أجلها، والتي تستظل بنصوص نظامية منثورة في نظام الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات الشرعية ونظام المحاماة، ولا شك عندي من أن لدى القضاة من المآخذ على المحامين ما قد يفوق تلك القصص والروايات. لكن، يبقى من غير المقبول في زمن نظام المحاماة ونظام الإجراءات الجزائية والنظام القضائي الجديد، أن يطلب قاض من محام ترك القاعة للاستفراد بالمتهم، ومحاكم العالم تعيّن محاميا لكل متهم لا يستعين بمحام، وليس من المقبول أن يسود قضاء العالم الحكمة القائلة بأن «تبرئة ألف متهم، أعدل من إدانة بريء واحد» ويحرم عندنا المتهم من فرصة التبرئة على يد محام وديننا يأمرنا بأن ندرأ الحدود بالشبهات.