إن إبسن قد أدرك إدراكا عميقًا بعد وثبة وعيه أنه كان معجونًا بالأوهام التلقائية السائدة في مجتمعه فبات أمام مسؤولية كبيرة وعليه أن يؤديها بقوة وصبر ومهارة لكنه كان يعلم أن تحرير ذاته مما انعجنتْ به هو أشق المهام وأعسر المحاولات إنها ظاهرة إبداعية لافتة وذات دلالة عميقة أن يكون أئمة كُتاب المسرح الثلاثة: شكسبير وإبسن وبرناردشو قد علموا أنفسهم ولم يتعلموا في المدارس والجامعات لقد اكتفوا بأن يتعلموا من غيرهم القراءة والكتابة ثم اعتمدوا على ذواتهم فانطلقوا يقتحمون كل المجالات فأبدعوا وصاروا أعلاماً خالدين لقد تحرروا مبكرين من التأطير والتنميط فانفتحت لهم الآفاق ونمت فيهم القابليات فصاروا أئمة وروادًا في المجال الذي استحوذ على ذواتهم وأصبحوا مبدعين بدلاً من أن يظلوا أتباعاً غافلين مقلدين وباتوا أئمة بدلاً من أن يبقوا مُريدين مستسلمين مرددين.. إن كون أئمة كُتاب المسرح قد اعتمدوا على أنفسهم في تعليم ذواتهم ليست في مضمار الإبداع ظاهرة فريدة ولا هي استثنائية، فالإبداع بأجمعه هو استثناءٌ لايضم سوى القلة المتوثبة التي تخترق الحواجز وتحلق بشكل منفرد. إن هذه الظاهرة غير محصورة في مجال من دون آخر، وإنما يقدم تاريخ الإبداع في مجالات العلوم والفنون والأعمال والقيادة والريادة، والكشوف شواهد لاتُحصى تؤكد أن المبدعين غالبًا لايأتون من جُموع المؤدلجين المؤطرين مدرسيًا وأكاديميًا، وإنما الإبداع مصدره التفرد ورفْض القوالب والانطلاق في الآفاق المفتوحة. فالذين يعتمدون مبكرين على أنفسهم يبقون أحرارًا غير مسجونين في تصورات مستحكمة ومسارات مغلقة وشعور واهم بالاكتفاء فتظل مواهبهم نامية وتبقى قابلياتهم مفتوحة متجددة طليقة مرفرفة متوثبة. إن إبسن وقبله شكسبير وبعده برناردشو قد بقوا أحرار الفكر طليقي المواهب مفتوحي القابليات، فصاروا روادًا مبدعين بدلاً من أن يظلوا أتباعًا مقلدين أو مُريدين مرددين.. وهنا لابد من التذكير بأنه في الثقافة العربية لم يكن المسرح عنصرًا من عناصرها التليدة وإنما هو عنصرٌ وافدٌ مجلوب وليس من طبيعة ثقافتنا أنْ تستجيب لما هو من خارجها بل تقاومه أشد المقاومة ولا تهدأ هذه المقاومة مهما امتد الزمن، لذلك بقينا نحن العرب من دون فاعلية إيجابية في حضارة العصر لأنها حضارة جياشة بالجديد وتعتمد على تغيرات نوعية في التفكير والتعبير والتنظيم والقيم وأساليب الأداء، وهي مطالب نرفضها تلقائيًا بمنتهى الصلف والوثوق والانتفاش. لذلك فإنه ليس غريبًا أن يبقى المسرح عندنا هامشيًا لأن قبول المسرح يعني الاعتراف بعدم الكمال وقبول النقد كما يعني التعايش مع الفكر المغاير واحترام وجوده والاستفادة من العناصر الإيجابية فيه وهو الأُفق الذي مازلنا نحن العرب نرفضه بشدة وعنف لذلك بقي المسرح عند غالب الناس في ثقافتنا عنصرًا مرفوضًا ومستنكرًا وبسبب هذا الموقف الثقافي الرافض للمغاير مازال الناس في بيئتنا لايدركون القيمة العظيمة للمسرح. فنحن العرب عمومًا لانشعر بالمكانة العالية التي يحتلها كُتاب المسرح في العالم الغربي وفي المجتمعات المزدهرة عمومًا، ولانعلم بأن مكانة شكسبير مثلاً في المجتمع الانجليزي لاتقلُ عن مكانة نيوتن بل إنها تعلو عليها. إن الانجليز كانوا ومازالوا يعتبرونه من أعظم مفاخرهم القومية، ولكن هذا الاهتمام والتقدير لرائد بارز من رواد الدراما مازال غريبًا في الثقافة العربية باستثناء من هم خارج التأطير الثقافي الصارم وهم قلة قليلة العدد وضئيلة التأثير.. إننا لاندرك بأن للمسرح دورًا عظيما في تفكيك الوعي الزائف وتنمية الوعي السليم وكما يقول أمين بكير في كتابه (المسرح مدرسة الشعب): (الدراما هي أم الفنون.. وهي في ذات الوقت خليقةٌ بتحقيق أعظم الأهداف وأسمى الغايات وقد لايدرك البعض مدى الرسالة التي يستهدف المسرح نشرها في المجتمع ظنًا منهم أن المسرح مجرد مكان يُقصد به الترفيه فالمسرح مهمته دائمًا أن يسبق الأحداث لتحطيم الكارثة الكبرى) ففي المسرح تتجسد أعظم الأفكار فتصل إلى عموم الناس بأسلوب مفهوم ومعالجات جياشة مثيرة مستفزة موقظة.. إن المسرح يعرض الأفكار المتعارضة والاتجاهات المتنافرة ويغوص في الأعماق ويجلو الخفايا ويكشف الحقائق، إنه يفعل ذلك بتجسيد حي مرئي ومسموع وسهل الفهم، فيتيح للناس أن يدركوا بسهولة كيف أن العقل البشري قابلٌ لكل التناقضات، وكيف يغتبط بمختلف الترهات، وكما يقول المسرحي الشهير جوردون كريج: (نحن نعمل في مجال يجب أن يبقى مفتوحاً للتبادل الحر.. فنحن دائمًا نتأثر ثم نؤثر في الآخرين) فالمسرح يضع الإنسان عاريًا أمام ذاته بإمكاناته الهائلة ونقائصه الشنيعة، إنه يكشف الحماقات البشرية التي تتلبس بها كل الأطراف ويجعل الإنسان يضحك من حماقاته أو يبكي من مآسيه فيدرك عمق هبوطه كما يدرك إمكانات ارتقائه.. كان إحساس إبسن بفرديته وتفرُده إحساسًا قويًا فاعلاً جعله لايطيق عمليات التطويع المدرسي فأنهى المرحلة الإعدادية بمضض ولكنه لم يستطع الصبر فترك الدراسة النظامية قبل أن ينهي المرحلة الثانوية فاكتفى بشهادة الإعدادية وهي ظاهرة تتكرر مع مبدعين آخرين كثيرين سوف أتناولها بتفصيل في مقالات أخرى.. إن رفْض إبسن القوي للتنميط والتدجين وتمرده على التنشئة التي تهدف إلى طمس الذات الفردية وتذوبيها ودمجها في المجموع ودعوته الصارخة أن يتمسك الناس بفردياتهم المستقلة فكرًا وسلوكاً مهما كانت العوائق إن وضوحه وصراحته في هذا الرفض قد جعل المجتمع النرويجي في البداية لايطيق منه ذلك فحصلتْ له مضايقات شعبية ورسمية اضطرته إلى أن يهاجر إلى ألمانيا ثم استقر في إيطاليا ولم يعُدْ إلى النرويج إلا بعد سبع وعشرين سنة وهنا نجد أننا أمام نموذج حي باهر يتجسد فيه الالتزام الصارم بالمبدأ فإبسن يعلن بوضوح وصرامة بأن: (أعظم الناس شأنًا هو الذي يقف ملتزمًا بمبادئه ولو بقي وحده) فكان سلوكه ومواقفه تجسيدًا لهذا التأكيد. إن إنسانية الإنسان تتجلى في فرديته الفريدة المدركة لهذا التفرد ولكن ما أندر أن يتحقق ذلك في الناس.. لقد وقف إبسن وحيدًا ملتزمًا بالمبادئ التي آمن بها وظل صامدًا على موقفه رغم كل الصعوبات والمشاق التي توهن أقوى الإرادات، لقد صمد بمفرده بشجاعة وشموخ حتى تغيرتْ رؤية وطنه عنه. إنه لم يتراجع ولم يهادن ولم يضعف وإنما الوطن كله هو الذي أفاق من تحجُره فإذا هو يتجاوز أوهام التقاليد فيستجيب له ويدرك أهميته فصارت النرويج تعُدُه مفخرتها الكبرى، لقد صمد إبسن أمام طوفان الرفض الشعبي والرسمي ثلث قرن فإذا الوطن نفسه يُفيق من جهله ويتخلى عن أوهامه وإذا هو يتراجع عن رفْضه ثم إذا هو ينجذب إلى الرائد الذي أنجبه ويلتف حوله ويحتفي به ليعلن له الإكبار والاحترام فيجعله علامةً بارزة من علامات أمجاده، فيمنحه الأوسمة ويقيم له التماثيل ويحيي ذكراه تكرارًا باحتفالات حاشدة، كما تشرفتْ جامعة (أوبسالا) بمنحه الدكتوراه الفخرية للفلسفة كما جرى إنشاء متحف باسمه يحتوي على إبداعاته وكل آثاره.. ولم يقتصر الاهتمام به على وطنه بل تفاعلت أوربا كلها مع إبداعاته فصار له مذهب ينسب إليه (الإبسنية) وامتد تأثيره إلى كل العالم وصارت مسرحياته تُعرض في كل الأقطار ويتكرر عرضها في البلدان الأوربية ومنحته الدانمارك وسامًا لقد كان ومازال ملء السمع والبصر وقد تحمس له برناردشو حماسًا شديدًا جعله يعتبره أهم من شكسبير وكتب عنه كثيرًا بحماس لم يمنحه لأي مبدع آخر.. إن إبسن قد أدرك إدراكا عميقًا بعد وثبة وعيه أنه كان معجونًا بالأوهام التلقائية السائدة في مجتمعه فبات أمام مسؤولية كبيرة وعليه أن يؤديها بقوة وصبر ومهارة لكنه كان يعلم أن تحرير ذاته مما انعجنتْ به هو أشق المهام وأعسر المحاولات، إنها مهمة جادة شديدة الإلحاح لتكوين الذات تكوينًا جديدًا، وهذا يقتضي تحطيم قُوى الظلام المهيمنة داخل النفس، إنه خروجٌ من سجن الوعي الزائف إلى فضاءات الوعي الصحيح. وقد كان إبسن يعرف أنها معركة شرسة وطويلة مع أعماق الذات أولاً ومع مقاومة الثقافة السائدة ثانيًا لذلك كان يُعلن بكل وضوح: (أنْ تحيا يعني أن تقاتل في ذاتك شبح القوى المظلمة أما أن تكتب فيعني أن تُدين ذاتك في جلسة محاكمة) فالرائد يقاتل القوى المظلمة التي تتحكم به من داخله إنها القوى التي شكلته تلقائيًا قبل بزوغ وعيه وبعد هذا التحرُر النسبي لقابلياته يلجأ إلى الكتابة لكي يواصل المعركة مع الذات لتحريرها أكثر وهو إذْ يفعل ذلك فإنه يبقى في صراع مع المحتل الثقافي الذي شكله ومع البيئة التي ترفض هذا التحرر وتدافع بشراسة عما ألفته واعتادت عليه وتشكلتْ به.. كم هو حكيمٌ إبسن وعميقٌ ورائع حين يؤكد بأن: (الأغلبية دائمًا على خطأ) فالإنسان لايفكر تفكيرًا صحيحًا إلا إذا هو تحرر من تصوراته التي تكونتْ تلقائيًا وهذا يقتضي أن يضع بينه وبين ذاته مسافة كافية لكي يراها بشيء من التجرد والموضوعية كما أنه لايستطيع أن ينظر إلى مجتمعه وإلى الثقافة السائدة فيه وإلى التاريخ الذي يعتبره مصدر أمجاده نظرةً موضوعية فاحصة إلا إذا هو خرج بعقله وعواطفه من الانتظام التلقائي في السائد وصار يراقبه ويفحصه وهو منفصل عنه بتفكيره ووجدانه، إنها المعضلة البشرية الأبدية الكبرى المستحكمة التي تصدتْ بضراوة وفاعلية لكل الأفكار الخارقة ولجميع العلوم الكاشفة فبقيتْ هذه المعطيات العظيمة في الشرق والغرب غير قادرة على إيجاد حل ناجع ينقذ الإنسانية من أوهامها الراسخة ويحررها من الذوبان في أخطاء الأغلبية وهي أخطاء غامرة للمكان والزمان تتكاثر بامتداد الزمن وتستمر بواسطة التناسل الثقافي التلقائي.. لقد توفر لدي عن إبسن من المراجع والمعلومات والإشادات مايكفي لأن أكتب عنه كتابًا كاملاً لكنني في هذه المساحة الضيقة سوف أكتفي بالقليل الذي تتسع له ولأنه يهمني أنْ أُثبت من خلاله كنموذج مُقْنع أن التعلُم وبناء الذات بناء علميًا متيناً لايمكن أن يتحقق بالرتابة التعليمية، وإنما لا يتعلم الإنسان حتى تتأجج الرغبة في داخله فيندفع تلقائيًا لا ليعرف فقط وإنما ليبدع ويصبح علمًا من أعلام الفكر أو الفن أو العمل أو القيادة. فنحن أمام نموذج صارخ تعترف الدنيا بأهميته لذلك يكون مطلوبًا تأكيد مكانته ببعض ما قاله عنه النقاد والدارسون.. يقول عنه آرنولد هاوزر في المجلد الثاني من كتابه (الفن والمجتمع عبر التاريخ): (إن الشخصية الرئيسية في تاريخ الدراما الحديثة هي شخصية (إبسن) ليس فقط لأنه أعظم موهبة مسرحية في القرن بل أيضا لأنه يُعبر عن المشكلات الأخلاقية لعصره أقوى تعبير درامي) أما عالم الفيزياء الإنجليزي السير تشالز سنو وهو أيضا أديبٌ مبدع مشهور فإنه في كتابه (الثقافتان) يشيد به ويعتبره الكاتب الأكثر فهما للثورة الصناعية وما تمخضتْ عنه من آثار إيجابية عامة واسعة وعميقة في التفكير الإنساني وفي الأوضاع الإنسانية وهو يشير بذلك إلى أن مبدعين ونقادًا آخرين من أمثال السير هربرت ريد يعادون الثورة الصناعية ويعتبرونها كارثة.. أما الدكتور عماد حاتم فإنه في كتابه (مدخل إلى تاريخ الآداب الأوربية) يعتبره المسرحي الأكبر فيقول: (ودخل الميدان.. المسرحيُ الأكبر إبسن الذي أحدث انعطافًا في المسرحية العالمية) إن إبسن من رواد التغيير في أوربا ليس في المسرح فقط وإنما في تفكير الناس وتصوراتهم عن الإنسان والحياة والمجتمع فهو مهمومٌ بوضع الإنسان الفرد ويسعى لتحريره من طوفان المجتمع كما أنه معنيٌ بالمغبونين لذلك اهتم بقضايا المرأة وقضايا العمال وليست هذه سوى نماذج من اهتماماته التي عالجها بقوة في إبداعاته.. أما الفيلسوف الروسي نقولا برديائيف فإنه كان شديد الإعجاب بإبسن إنه معجب به إعجابًا متأججًا ومما قاله عنه في كتابه (الحلم والواقع): (.. وقد اكتشفتُ الأهمية العظمى لإبسن وطالعته كما أطالع نبيًا.. نبيًا يحركه الحنين إلى تحرير الإنسان) ويقول في موضع آخر: (وكنت أقرأ إبسن كثيرًا فوجدت عنده الكثير مما يعبر عن موقفي المتحول وشعوري بالحياة بل لقد أصبح واحدًا من كُتابي المفضلين وكان مايسميه الآخرون (نزعتي الفردية الخطيرة) ووعيي الشديد للمصير الشخصي يتردد صداه في إبسن) ويقول في موضع آخر أيضا: (وكُتابي المفضلون هم كُتاب المأساة اليونانية وسرفانتس وشكسبير وجوته وبايرون وهوفمان وديكنز وبلزاك وأحببت فكتور هوجو كما أحببت فوقهم جميعا إبسن) إنه يقدم إبسن على عمالقة الفكر والإبداع من أمثال شكسبير وجوته!!.. وفي الكتاب الذي أصدرته اليونسكو بعنوان (مفاتيح القرن الواحد والعشرين) يرى رئيس المجمع الهندي العلمي راما كانتاراث أن أفكار إبسن متقدمة جدا مما يجعل فهمها يستعصي على أفهام البعض فيقول: (إن أدباء مثل إبسن قد أثروا تأثيرًا بالغًا في الأدب الحديث ولكنهم كانوا فوق مستوى بعض القراء) فلو تمكن الناس من فهمه فهما كاملاً لكانت النتائج أعظم وأبهج.. وكتب عنه العقاد مقالاً أورده في كتابه (ساعات بين الكتب) وفيه يقول: (وعلتْ شهرته بروايتين نظمهما في إيطاليا وحلق بهما في ذروة الشعر والبلاغة والقدرة الظاهرة على وصف الشخصيات وتدبير المواقف) إن إبسن بعد إبداعاته الأولى وجد مضايقات شديدة في وطنه فاضطرته إلى هجْره والانتقال إلى إيطاليا ولكن بعد أن طارت شهرته واعترف العالم كله بإبداعه تغيرتْ نظرة وطنه إليه وكما يقول العقاد: (فثاب إليه معززًا محفوفًا بالتبجيل والتقدير وكانت شهرته قد سرتْ إلى أوربا وعده النرويجيون من مفاخرهم القومية واحتفلوا ببلوغه السبعين في حماسة وشمم وأقاموا له تمثالاً ومات وهو على أبواب الثمانين فشيعتْه الأمة والحكومة في جنازة رسمية لم يسبق مثلها لأحد من الأدباء النرويجيين) وفي عام 1906 احتفل العالم كله بمئويته، وشاركتْ بها مكتبة الإسكندرية بمصر بالتنسيق مع سفارة النرويج ومع المناسبة جرى إصدار مختارات من إبداعاته في ثلاثة مجلدات تم نشرها ضمن المشروع القومي للترجمة، وقبل ذلك نشرتْ سلسلة (من المسرح العالمي) بالكويت عددًا من مسرحياته وهنا لابد من الإشادة بجهد د. عبد الله عبد الحافظ ود. أحمد النادي ود. علي الراعي ورندا حكيم وكامل يوسف وفوزي شاهين وصلاح عبد الصبور ورؤوف سلامة موسى ونيرفانا مختار حراز وزكية خيرهم، فهولاء هم الذين ترجموا إبداعاته كما ترجموا بعض المؤلفات التي صدرت عنه.. إن إبسن مازال حاضرًا بقوة وقد أشار رياض عصمت في كتابه (المسرح في بريطانيا) إلى أن الاهتمام بمسرحيات إبسن مستمرٌ ومتجدد ويقول: (شهدتْ لندن إخراجًا ممتازًا لمسرحية إبسن (بيت الدمية) قام به ادريان نويل أحد ألمع المخرجين في بريطانيا ولعبتْ فيها دور(نورا) الرئيسي الممثلة تشيريل كمبل وهي واحدة من أقدر ممثلات فرقة شكسبير الملكية) ثم يقول: (بيت الدمية إضافة إلى كونها مسرحية على غاية من الإتقان في البناء الدرامي وتصوير الشخصيات فإنها حتى يومنا هذا أفضل وثيقة درامية كُتبتْ دفاعًا عن حقوق المرأة) ويقول الناقد الانجليزي كوين في دراسة له بعنوان (المسرح الحديث): (كان هنريك إبسن أعظم كاتب مسرحي في القرن التاسع عشر (والعقد الأول من القرن العشرين) لقد كان إبسن يناصر الفرد بأي ثمن في مواجهة صغار المجتمع وانحطاطه الروحي) ويقول كوين: (إن إبسن على مستوى أعمق إنما يتحدث عن الحقيقة والأكاذيب.. عن زيف أية حياة لاتعترف بحقيقة نفسها) في الجزء الأول من قاموس المسرح يقول مؤلفوه عن إبسن: (في مصاف كتاب المسرح العظام في العالم وتتسم نظرته للحياة بالعمق والشمول ويتسم مسرحه بدقة المعمار والاقتصاد مع تعبير شاعري عميق.. كان لإبسن بالغ الأثر في المسرح في أوربا وأمريكا) وكتب عنه الدكتور ثروت عكاشة في المعجم الموسوعي: (يُعدُ أول المؤلفين المسرحيين العصريين وأعمقهم تأثيرًا حتى ليعدُه بعضُ النقاد في مصاف سوفوكليس وشكسبير من حيث قدرته الفائقة على التأليف المسرحي، وقد كان لمسرحياته أثر قوي في تغيير الاتجاهات الاجتماعية إذْ برهنتْ للمرة الأولى في التاريخ على مدى مايستطيع المسرح أن يؤديه من تغيير للسلوك الاجتماعي. وكان إبسن كاتبًا ممتازًا بتفانيه ومنهجيته) إن عكاشة بمعجمه لايعبر عن رأيه الشخصي فقط وإنما هو يدون الرأي النقدي السائد عن إبسن في الغرب وفي العالم.. ولا يتوقف الاهتمام به، فمن آخر الكتب التي صدرتْ عنه كتاب (هنريك إبسن: كل شيء أو لاشيء) للمبدع النرويجي ستاين إريك لوند وقد ترجمتْ الكتاب المبدعة زكية خيرهم وهي كاتبة الرواية المدهشة (نهاية سري الخطير) وهي رواية ضخمة الحجم باهرة المضمون مكتوبة بلغة راقية وأسلوب عذب ومحتوى عميق إنها تتدفق بغزارة وروعة إنها رواية مثيرة ومُمتعة ومفيدة وحسْبُ عمل إبداعي أن تجتمع فيه كل هذه العناصر ليستحق القراءة بعناية وتهنئة من أبدعتْه.. هكذا هو الإنسان لاتتفتح قابلياته للاستقبال وتنمو مواهبه للإبداع إلا بمقدار مايتوهج من داخله فالإنسان كائنٌ تلقائي تحركه القيم والأشواق والرغبات والطموحات والتنافس والصراع والحب والكُرْه وليس المعلومات التي يتجرعها اضطرارًا..