صورة المكان داخل المدينة أصبحت مزدحمة بالأحداث، فمعنى المكان نفسه صار يتغير بشكل سريع هذه الأيام خصوصا في المدينة العربية التي صارت تتلبس بالصورة المتخيلة في اذهان الناس، فمن ميدان اللؤلؤة في المنامة الذي كان يمثل علامة بصرية مهمة، وكان مركز الازدحام المروري قبل أن يتم الانتهاء من جسر ضاحية السيف إلى ميدان التغيير بالقرب من جامعة صنعاء حيث يتداخل الفضاء المادي مع الفضاء الثقافي والفضاء السياسي. الصورة الذهنية للمدينة العربية هذه الأيام تتبدل كل يوم إذ يبدو أن «الخارطة» المنطبعة في الذهن ليست كلها مادية بل إن الحدث والصورة المرتبطة بالحدث هي التي تصنع هذه الصورة أكثر من المعالم التي تحتوي عليها المدينة، حتى إننا نستطيع أن نقول إنه أصبح هناك «خارطة سياسية» للمدينة. فشارع طلعت حرب مثلا في القاهرة تبدلت صورته في أذهان الناس عدة مرات ولعل آخرها كانت هذه الصورة التي طبعها ميدان التحرير في أذهان العرب والمصريين، فهذا الشارع ينتهي بميدان التحرير لكنه شارع يحمل صورة المقهى الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ وعمارة يعقوبيان التي كتب عنها الدكتور علاء السواني روايته. إن المدينة العربية تصنع هوية جديدة لها، هوية تتجاوز البصري إلى الاجتماعي والثقافي والنفسي، هوية تسترد روح المدينة لا جسدها؛ ستنعكس هذه الهوية الروحية الجديدة على جسد المدينة العربية وستجعلها تغير من تفاصيلها المادية في المستقبل... معالم لايكاد يعرفها من يسكن الشارع نفسه (وهو ما تأكدت منه عندما حاولت السؤال عن عمارة يعقوبيان) لكنها شكلت انطباع من يزورون القاهرة عن هذا الشارع الذي لايكاد أحد يتوقف ويسأل عن ميدان طلعت حرب نفسه كونه ميدانا لم يرتبط بحدث بل تشكل ماديا فقط. ما أود أن أقوله إن «الخارطة الذهنية» للمدينة ديناميكية ومتحركة وتتغير مع الوقت بتغير الاحداث وتاريخ المكان ليس فقط بمعالمه المادية بل بالصورة التي يبنيها الناس حوله. فأنا مثلا زرت مدينة تونس ثلاث مرات لكن الصورة التلفزيونية لشارع الحبيب بورقيبة هي الأكثر انطباعا في ذهني رغم أنني زرت الشارع عدة مرات وكنت أراه شارعاً حضرياً يضاهي الشانزليزيه في باريس لكني لم أتخيله بهذه الجموع البشرية التي تهتف بصوت واحد من أجل حرية الشعب التونسي. المكان «المعضلة» هو المكان المتخيل أو «المكان الافتراضي» الذي لا يتجسد ماديا إلا في صورته المكتملة التي تجمعه بالناس، فقد قال لي أحد طلابي إن ميدان التحرير في القاهرة لم يكن يمثل له شيئاً مهماً، فهو مجرد تقاطع مروري يضم مجمع التحرير الحكومي والمتحف المصري ويطل عليه مقر جامعة الدول العربية، ساحة ممتلئة بالسيارات دائما ويملأ سماءها دخان عادم السيارات، لكنه أصبح ميدانا افتراضيا شعبيا شكله الناس وصنعوا أحداثه اليومية، فالصور التي تأتي من الميدان يوميا كانت تصنع تفاصيل مفترضة، تحرك الذهن، وهي تفاصيل للناس أنفسهم مع بقاء المكان المادي كما هو. ما يثيرني فعلا هو أننا نصنع الأمكنة لتعبر عن ذاتها وعن أدوارها حسب العصر الذي تعيشه، فسجل المدينة يكمن في أماكنها التي تبدو ثابتة لاتتغير لكنها تحمل داخلها كل أحداث المدينة التي تبقى في أذهان الناس أكثر من المكان المادي الذي يشاهدونه يومياً. بعض الأمكنة تحظى برمزية وتتراكم داخلها الأحداث حتى إن الناس ينسون المكان نفسه بحضوره داخل المدينة ويتذكرون فقط الحدث أو الأحداث المرتبطة به، وهذا في حد ذاته له تأثيره العميق على تصورنا للمدينة، فنحن حقيقة لا نرى المدينة كما هي في الواقع بل نراها عبر ما ينطبع داخل أذهاننا من تصورات. في اعتقادي أن هذه التصورات هي التي تساهم في بناء الخارطة الذهنية للمدينة، فمن منا مثلا يحتفظ بصورة المكان بماديته ومن منا يحفظ صورة واحدة فقط لمكان ما، فتعدد الصور وتعدد الانطباعات هي التي تشكل هذه الخارطة المتمردة على الثبات. ولعلي هنا أقول إن طبيعة هذه الخارطة (غير الثابتة والتي هي في حالة تشكل مستمر) هي التي تصنع ما يمكن أن نسميه «المكان الحي». ربما نحن نعيش هذه الأيام حالة «الأمكنة الحية» في المدينة العربية، فما يحدث داخل هذه المدن لن يغير فضاءها المادي لكنه بكل تأكيد سيغير تصوراتنا عن تلك المدن، فالصورة التلفزيونية التي عشناها ونعيشها هذه الأيام ستظل عالقة في أذهاننا وستجعلنا نغير من مسارات حركتنا عند زيارتنا لهذه المدن حتى نتقاطع مع تلك الأمكنة «الافتراضية»، لأننا لن نراها كما هي منطبعة في أذهاننا، بل ستعود إلى طبيعتها المادية لكن تقييمنا لها سيظل مرتبطاً بتلك الصور الذهنية. يمكن أن نقول إن المدينة العربية تصنع هوية جديدة لها، هوية تتجاوز البصري إلى الاجتماعي والثقافي والنفسي، هوية تسترد روح المدينة لا جسدها، لكن دون شك ستنعكس هذه الهوية الروحية الجديدة على جسد المدينة العربية وستجعلها تغير من تفاصيلها المادية في المستقبل لتعبر عن هذه الروح الجديدة التي تغمر المدينة العربية. بالنسبة لي لم أشعر في يوم أن المدينة العربية المعاصرة يمكن أن تسترد عافيتها إلا بعد أن انتفضت وتحررت من سكونها. نحن نعيش هوية «الناس» الذين يصنعون هوية المدينة لا هوية «المدينة» التي تصنع هوية الناس. هذا الانقلاب الكبير في المفاهيم خصوصا في علاقة الناس بالمدينة يمثل تحولا اساسيا في مفهوم التخطيط العمراني نفسه، فمن يخطط المدينة ومن يديرها يجب عليه أن يخطط ويدير حسب تصور الناس للمدينة وهو تصور في اعتقادي يفرض فهم المكان الافتراضي الذي تشكل في عقول الناس، لأن أي انعزال عنه يعني فشل هذه الخطط وتردي إدارة المدينة. دعوني أقول إن المدينة تشبه لوحة الرسم التي يرسمها كل سكانها وزوارها، لكنها صورة تتجدد بتجدد الاحداث وتجدد الناس، فالناس يرحلون والمدينة تبقى وسوف يأتي دائما أناس يرسمون على لوحة المدينة صورة جديدة، لكن تاريخها وخارطتها الذهنية تبقى وتختلط مع الخرائط الذهنية الجديدة وتتحول حسب الاحداث الجديدة التي تصنع تاريخا جديدا وصورة جديدة للمكان. هذا التصور نفسه يعمق فكرة «حكاية المكان» التي يتجاهلها الكثير ظنا منهم أن ذاكرة المدينة ضعيفة، بينما هي ذاكرة كل الناس وتاريخهم وبالتالي هي تاريخ راسخ وباق ويصعب أن يمحى طالما أن الناس يأتون ويرحلون ويتركون بصماتهم على أمكنة المدينة ويشكلون خرائطهم الذهنية، كل حسب ما يعرف وما جرب وما عاش وقرأ وسمع. المدينة ليست خارطة واحدة بل هي خرائط متعددة يصنعها كل من يسكن المدينة ومن يزورها.