يحتاج المشهد الموسيقي السعودي إلى إعادة قراءة لتحديد أسباب ضموره وانحساره، خاصة مع قلة الاهتمام بالموسيقى من قبل الجهات المعنية بالثقافة والفنون والذي أدى إلى تغييبها عن المشهد العام رغم أهميتها الثقافية الكبيرة. إن الموسيقى لغة الشعوب وبها تتفاخر الدول والحضارات، وإذ نقول موسيقى فنعني تحديداً الموسيقى الخالصة التي لا يشوبها "غناء" والتي نسمعها في السمفونيات والمعزوفات الشهيرة. فلمَ لا تكون لدينا أمسيات موسيقية لفرق سعودية؟. وما أسباب غياب هذه الثقافة وانعدامها في المجتمع؟. وهل يجوز لنا أن نحلم بمهرجان متخصص بالموسيقى؟. وأن نحلم بالاستماع لسمفونيات سعودية؟. بداية يقول الفنان الموسيقي عادل الزهراني إن أزمة مجتمعنا مع الموسيقى تبدأ من الصغر "فلا يوجد تذوق موسيقي حقيقي ولا احترام للموسيقى على اعتبار أنها فن راقٍ له علاقة بالذوق والحضارة للشعب الذي ينتج هذه الموسيقى لكن الجمهور يغذى بأن الموسيقى سيئة منذ الصغر ويتربى على ذلك رغم وجود القنوات الفضائية التي تبث الموسيقى والحفلات الغنائية التي تقام بشكل دوري". ويضيف الزهراني: "حتى توجد حركة موسيقية توازي الحركات الموسيقية حول العالم والتي من حولنا في دول الخليج العربي يجب إعادة النظر في مفهوم الموسيقى ومالها من دور حضاري وثقافي للأمم وتعليم وتدريس الموسيقى للنشء وتأسيس معاهد لتدريس الموسيقى الصحيحة وليس الغناء فقط وما نشاهده الآن في الفضائيات وفي الأغاني المعروضة شكل موسيقي هابط وأتفق مع من يرون "حرمته" لأن ما يعرض في القنوات الفضائية والمهرجانات التي تقام في العالم العربي سيىء ولا يليق بفن عميق ورصين مثل الموسيقى التي أرى أنها ضرورة إنسانية ملحة وشكل حضاري مهم يجب الاهتمام به وأقصد بذلك الموسيقى البحتة". من جانبه يقول سلمان جهام مشرف لجنة الموسيقى بجمعية الثقافة والفنون بالدمام بأن المشهد الموسيقي يعيش حالة من الحضور حيناً وحالة من الغياب أحياناً أخرى، "لكن يظل المشهد الموسيقي الثقافي موجودًا من خلال ما تقدمه فروع جمعية الثقافة والفنون عموماً وفرع الدمام خاصة الذي حرص منذ أعوام على الاهتمام بالموسيقى والغناء وتقديمه بشكل يليق بالمشهد الثقافي ويقف جنباً إلى جنب مع الفنون الأخرى التي تقدمها الجمعية عبر لجانها الفنية". ويشير جهام إلى أن لجنة لجنة الموسيقى بجمعية الدمام تمكنت من استقطاب الموسيقيين القدامى والمخضرمين وفتحت المجال للمحدثي، وهي المؤسسة الثقافية والفنية الوحيدة التي ترعى الفنون وتقدمها للمجتمع بشكلٍ ثقافي وترفيهي دون ربح عائدٍ عليها بل هي بجانب الدعم الحكومي "الذي نتمنى أن يتضاعف" تسعى دائماً إلى استقطاب الرعاة، فقدمت أمسيات موسيقية نفضت من خلالها تراكم غياب امتد لسنوات طويلة. موضحاً أن الخطر يكمن في الموسيقى التجارية التي تبثها الفضائيات "وهي على النقيض مما نقدمه في جمعية الثقافة والفنون". ويوضح جهام بأن لجنة الموسيقى بفرع الدمام كانت الرائدة في تقديم الفنانين الرموز الذين ساهموا بعطاءاتهم بشكل ثقافي فني متميز أمثال طلال مداح وطارق عبد الحكيم وعوض الدوخي وأم كلثوم ومحمد عبده وأخيراً أبو بكر سالم. مشيراً إلى أن لدى الجمعية رغبة في المشاركات الموسيقية الخارجية كمهرجان الموسيقى العربية. مضيفاً بقوله إن "الموسيقيين الحقيقين موجودون لدينا وهم عازمون على الاستمرار في عطاءاتهم ويأملون من المجتمع الواعي أن يميز بين ما يقدمونه عبر قنوات ثقافية وبين ما يحدثُ من تشويه للمشهد الموسيقي عبر الفضائيات الغنائية". مطالباً بمساواة الموسيقى ببقية الفنون ومنح الموسيقيين حقهم في تكوين جمعية خاصة بهم باسم "الموسيقيين السعوديين". وينفي جهام غياب الحركة الموسيقية الحقيقية في المملكة، مؤكداً وجود تيارات موسيقية حقيقية "لكنها تواجه بفهم خاطئ، كما تعاني من قلة الدعم ومن إقصاء إعلامي. هؤلاء الموسيقيون المبدعون يعملون في الهامش ويحققون نجاحات ليست على مستوى تطلعاتهم لكنها تمنحهم القدرة على الاستمرار". أما الباحث الموسيقي حمد الدوسري فيرى أن الحركة الموسيقية في المملكة تعتبر مقبولة قياساً على المواهب الموجودة في الساحة والجهد الفردي الذي يبذله أي موسيقي سعودي سواء من خلال التعليم الذاتي أو التعليم والبحث عن طريق الإنترنت أو السفر إلى دول مجاورة للتعلم، ولكن استمرار الحال على ما هو عليه سيؤدي إلى نتائج سلبية بحسب رأيه، ومنها عدم المقدرة على مجاراة الدول الأخرى من الناحية الموسيقية، إلى جانب صعوبة إيجاد فرقة موسيقية بالمعنى الفني قادرة على إحداث حراك موسيقي حقيقي. ويشدد الدوسري على أهمية الدراسة الأكاديمية "التي أصبحت مطلباً أساسياً للارتقاء بالحركة الموسيقية السعودية"، مضيفاً "من جهتي كباحث في الموسيقى الشرقية أسعى جاهداً إلى المساهمة الفاعلة في نشر تراثنا الموسيقي الشرقي حتى لا تختزل الموسيقى الشرقية في دولة بعينها أو قالب أو لون واحد، فنحن نمتلك موروثاً وقوالب موسيقية كثيرة ومتنوعة ويجب أن نعمل على نشرها وتطويرها.. أما إقامة الأمسيات بشكل دوري فإن ذلك يتطلب تفرغاً تاماً من جهة الموسيقي حتى يتم الاستعداد الذهني وإجراء التمارين على الآلة الموسيقية، بالإضافة إلى أنها تتطلب وجود فرق موسيقية متنوعة حتى لا يقتصر المشهد على تقديم إحياء الموروث من خلال تقديم مقطوعات فلكلورية". معتبراً عدم وجود فرق موسيقية مؤهلة تأهيلاً مقبولاً له أسبابه ومنها "المعوقات الاجتماعية، فالموسيقي السعودي يمر بمرحلة تفكير وتردد قبل الظهور ويضطر لأن يضحي بأمور عدة في سبيل تحقيق هدفه". ويرى الدوسري أن الأمسيات التي تهتم بإحياء الموروث مهمة جداً "ولكن ليس بالطريقة التقليدية، فعلى سبيل المثال عازف العود العراقي الأستاذ منير بشير نجح في تقديم الموروث العراقي من خلال الأمسيات التي يقيمها في أوروبا من خلال نقل المقامات والموازين العراقية في إطار مقطوعات حديثة، كما أنه أعاد توزيع مقطوعات قديمة.. وربما كان مناسباً إدراج تراثنا الموسيقي الشرقي في المهرجانات المحلية". وعن مستوى مشاركة الموسيقيين المحليين في الخارج، فيقول الدوسري: "ستتفاجأون إذا قلت لكم بأن مشاركة الموسيقيين المحليين في الخارج جيدة، ولكن تغييب الموسيقي السعودي إعلامياً وعدم منحه الفرصة للظهور وتقديم الأمسيات أدى إلى عدم معرفته وعدم معرفة نشاطه داخلياً وخارجياً. ومن جهة أخرى فمستوى الأمسيات في الخارج يختلف عن طبيعة فهمنا للموسيقى، فمعظم المهرجانات الموسيقية تعتمد على الموسيقى الآلية من خلال تقديم المقطوعات على الآلة دون الغناء مثل مهرجان العود الدولي، ومسابقات آلة العود كذلك، وورشات العمل التي تعقد بشكل دوري لآلة العود، وفي المملكة تعتبر ثقافة الموسيقى الآلية شبه معدومة لذلك يجب علينا أن ننشر ثقافة الاستماع إلى الموسيقى وتذوق النغم". وعن تراجع حضور الموسيقى في المجتمع، يرى الدوسري أن "البيئة الموسيقية الحقيقية هي مجموعة من العناصر تكمل بعضها الآخر ابتداء من التعليم الأكاديمي وانتهاء بوجود فرقة موسيقية قادرة على تحقيق دور الموسيقى في المحافل، ولكي نصل إلى الحراك الحقيقي على المستوى الموسيقي يجب أن نملك عدداً كافياً من الفرق الموسيقية المؤهلة لنخلق التنافس، بالإضافة إلى تنوع هذه الفرق الموسيقية لتحقق رغبات الجمهور والذوق العام المتنوع، وهذا يتطلب دعماً رسمياً حقيقياً من قبل الجهات الرسمية، أو حتى مؤسسات المجتمع المدني أو القطاع الخاص ويمكن تفعيل الاستثمار في التراث الموسيقي من قبل المهتمين والرعاة". عادل الزهراني حمد الدوسري