للعيد رائحة تسكن الذاكرة، فما إن تحل ليلته حتى تنبعث تلك الروائح من رقادها، وكأنّها بُعثت من عدم؛ لتُحيي ليلة يستشعرها صاحبها، فتأذن للأفراح أن تنطلق وتعانق الوجدان، وتطلق موجات عاتية من ذكريات لا تتوقف.. إنّها ليلة العيد، مفعمة بالفرح وعبق ذكريات الطفولة والشباب.. فرح نشترك جميعاً في الشعور والاحتفاء به، إلاّ أننا نختلف في تفاصيل هذا الاحتفاء بما يلامس مشاعر كل منا، فنركب موجات الفرح، ونسافر بها إلى ما يقودنا نحو الإشباع، والرضا، والإحساس بمتعة العيد، والتي قد تبدأ لدى البعض منا منذ ليلته الأولى، مختزلةً الفرح في هذه الليلة بالتحديد؛ لأنّها الأكثر التصاقاً بذكريات هي جزء من سلوكيات مارسناها في فترة من فترات حياتنا، حتى ارتبطنا بها، وأصبحت عادة ملازمة لنا، نمارسها من دون وعي، وصار لكل منا طقوس خاصة لاحتفالية ليلة العيد، يستشعر معها طعم الفرح والإحساس بروحانية هذه الليلة، وآخرون يستقبلونها بالدموع حزناً على فراق شهر طالما أحبوه وانتظروه عاماً بعد آخر. بالون الفرح يغمر المكان حباً وولهاً فرحة غامرة يتقافز الفرح ليلة العيد ليغمر قلوباً لطالما انتظرته بشغف ولهفة؛ إذ تشكل ليلة العيد كعادتها ليلة العيد، فهاهي "أم عبدالعزيز" تقف وسط فناء المنزل، ممسكة بخرطوم المياه، تصوبه هنا وهناك باتجاه تجمعات الغبار؛ لتحريكها باتجاه الباب، بينما تسحب الخادمة المياه خارجاً.. مشهد دائماً ما يستفز "أبو عبدالعزيز" أثناء توجهه خارجاً لأداء صلاة العشاء، وهو يزمجر بأعلى صوته: "ما بعد جابوه"، وترد عليه "أم عبدالعزيز": "إلاّ بلى الليلة عيد، ليالي العيد تبان من عصاريها"، وما أن ينطلق أول مدفع مؤذناً بأنّ غداً العيد تفلت خرطوم المياه للخادمة لتكمل المهمة، بينما تتجه مسرعة لغرفتها، يتقافز الفرح في عينيها لاستقبال أبنائها وأحفادها، فتبدل ملابسها، وتخرج لتتفقد هدايا العيد التي جلبتها لهم، بينما تتردد باستمرار على المطبخ لتتفقد صواني الحلويات التي تعدها عادة للعيد، ويتناولونها مع القهوة حينما يأخذ كل نصيبه منها عند مغادرته، مخزون الفرح في ليلة العيد داخل "أم عبدالعزيز" أطلق طاقاتها، وكأنّها شابةٌ في العشرين.. هذه حال كثير من الأمهات، إذ تشكل ليلة العيد بحد ذاتها عند البعض أهمية وحميمية ربما أكثر من نهاره، فتمارس فيها عادات أشبه بطقوس، لا نملك إلاّ أن نأتيها من دون وعي منا بمدى تمكنها في وجداننا. مسيرة «عصاري العيد» إيذاناً بموعد الفرح مع الغروب بيت العائلة وذكرت "فاطمة النهدي" أنّها اعتادت أن تجمع أفراد أسرتها ليلة العيد من أبناء وبنات وأحفاد، وعادةً لا تقبل أن يتخلف عنها أحد، حيث تعيش معهم أجمل الليالي، إذ تكون حينها قد جهزت أنواعاً متعددة من حلويات العيد، بينما تتغير قوائم الأكل كلياً للعشاء إلى أنواع الأجبان والزيتون والمخللات، وغيرها من أصناف الطعام المتعارف عليه بالعامية "نواشف"، موضحةً أنّها تحرص على جمع أفراد الأسرة على العشاء، وأن يحصل كل فرد منهم على حصته من حلويات العيد قبل مغادرته بيت العائلة. دموع الفراق وبيّنت "فاطمة البصري" أنّ والدتها اعتادت الصلاة في جامع الحي طوال شهر رمضان، حتى إذا جاءت العشر أصبحت أكثر تواجداً في المسجد من بعد صلاة المغرب وحتى آخر الليل، وعندما يتم الإعلان عن دخول ليلة العيد تعيش لحظات حزينة، وتظل تبكي حزناً على فراق رمضان، إلى أن يتجمع أفراد الأسرة من الأبناء والأحفاد محاولين إخراجها من حالة الحزن التي تنتابها، بينما تشرع بناتها وزوجات الأبناء لدخول المطبخ لإعداد حلويات العيد، مشيرةً إلى أنّها اعتادت الذهاب إلى السوق الشعبي "المعيقلية" وسط البلد، لتشتري أنواع الحلويات الشعبية والحديثة، وتجلبها للمنزل لضيافة الزائرين يوم العيد، كما تشتري هدايا العيد لأطفال الأسرة والأقارب، وتوزعها عليهم صباح العيد، منوهةً بأنّ هذه العادة لا تتخلى عنها أبداً، وأصبحت تشكل جزءاً من طقوس العيد بالنسبة لها ولأفراد أسرتها. بيت الشعر ونوّهت "منيرة العتيبي" بأنّها اعتادت ليلة العيد الخروج مع والدتها لسوق وسط البلد للتسوق، إذ تقتضي طقوس هذه الليلة في تجهيز الخيمة الخارجية بفناء المنزل، حيث تقضي أمها يومها في استقبال الوافدين من الأقارب، والأهل، والزائرين، وفي كل عام يتم تجديد بعض محتويات الخيمة، من خلال إضافة لمسات جديدة أو إلغاء مالم يعد له حاجة، وغالباً تكون أنواعاً من الإكسسوارات التراثية الخاصة بالخيام، مبيّنة أنّ والدتها مولعة ببيت الشعر، وفي ليلة العيد تجهزها وكأنّها عروس ليلة عرسها، ليس ذلك فحسب، بل تعمد كذلك إلى تجهيز الضيافة بمختلف أشكالها وألوانها من الأكلات الشعبية المعروفة، بعضها تعده بنفسها، والبعض الآخر تشتريه من المحال المتخصصة، وتقضي ليلة العيد في الخيمة لا تغادرها حتى تدخل للنوم، مشيرةً إلى أنّ هذه عادة عرفت عنها لا يمكن أن يجادلها أحد في شيء حولها، مهما كان الأمر، بل العكس تكون ليلة ذات طعم وشكل مختلف. ذكريات العيد وقالت "نجاة بدر": "لليلة العيد رائحة عبقة تسكن الوجدان، خليط كالسحر من رائحة البخور وكعك العيد وأطياب والديّ المعتقة التي تنبعث من غرفتيهما، ومن عادتنا نحن الأبناء التجمع في غرفة والديّ، حيث يحلو الحديث عن العيد في ذاكرة كل منا، وغالباً ما يبدأ الوالد في تجهيز ملابسه ومقتنياته الخاصة بالعيد، يضعها في مكان قريب من متناوله، وقد لا يكون كل ذلك جديداً، وإنما مما يحرص على ألا يلبسه أو يستخدمه إلاّ في المناسبات الخاصة، ومن العادات الجميلة للوالد ليلة العيد توزيع النقود على بناته بصفة خاصة، على الرغم من الاكتفاء المادي لكل منا، إلاّ أنّها من طقوس ليلة العيد التي تفرحنا وتشكل جزءاً من ذكريات هذه الليلة". تنظيم وترتيب ورأت "العنود عبدالعزيز" أنّ شكل ترتيب وتنظيم غرفة الجدة بالنسبة لها أجمل الطقوس والذكريات، التي عتادتها ليلة العيد منذ أكثر من (15) سنة، حيث تهتم بتجهيز الجدة لاستقبال الزائرين، إلاّ أنّ الأكثر تأثيراً بها عندما تهم بترتيب أغراض الجدة ومقتنياتها الشخصية، بحضور فتيات من العائلة ممن يدهشهن ما يرونه لأول مرة، من أدوات ومقتنيات لم يألفوها من قبل؛ مما خلق علاقة حميمية بينها والجدة، فارتبطت ليلة العيد بالنسبة لها بالجدة ومتعلقاتها الشخصية، خاصةً غرفتها وما تضمه من مقتنيات تراثية.