في أحد شوارع لندن بالقرب من المكتبة البريطانية شد انتباهي رجل كفيف يسير بعصاه على الرصيف دون أن يشعر أحد بإعاقته، كان يمشي بثقة وبهدوء بالقرب من الجدار دون أن يلامسه، فهذه عادة فطرية يقوم بها من لا يرى، فهو يستعين بحاسة السمع للدلالة والشعور بالأمان، والصدى الذي يعكسه الجدار هو نوع من العلامة على وجود جسم صلب يمكن أن يتكئ عليه فاقد البصر عند الضرورة، لكن حركته كانت توحي بأنه رجل تجاوز إعاقته فهو يعيش المدينة بكل تفاصيلها حتى وإن كان لا يراها. ما اثارني فعلا هو أن هذا الكفيف استدار بسرعة فائقة عن اشارة المشاة وقطع الشارع بكل ثقة ودون أي تردد. هذا المشهد استوقفني وجعلني افكر كثيرا، رجعت مرة أخرى للطريق ووقفت عند اشارة المشاة وحاولت أن أعرف كيف عرف هذا الكفيف بوجود الإشارة وكيف عبر التقاطع الخطر باطمئنان رغم أنه نفس الشخص الذي كان يسير بالقرب من الجدران يكاد يتحسسها لحماية نفسه. اكتشفت عند التقاطع أن بلاط الرصيف يتغير ويصبح له نتوءات تُشعر فاقد البصر أنه وصل لنقطة ممر المشاة ثم سمعت صوتا يشبه الجرس المتقطع عندما أصبح لون الإشارة أخضر، فقد وضعت تلك الاشارات لكل الناس فمن يرى لن يعير الجرس اهتماما فاللون الأخضر أمامه ومن لايرى فسوف يعرف ان الإشارة خضراء ويمكنه العبور باطمئنان وهو يعلم يقينا أنه لن يقوم أحد بقطع الإشارة لأنها جريمة يعاقب عليها القانون بصرامة. لقد أدهشني هذا الموقف ولكن أدهشني أكثر هذا المكان الانساني وحرص بلدية لندن على جعل المدينة لكل الناس. تخيلت المشاة في مدينة الرياض والمعاناة التي يعانون منها وأنا هنا لا أتحدث عن فاقدي البصر الذين ليس لهم مكان أصلا في مدننا بل حتى الأصحاء الذين يرغبون في المشي فالمدينة لا تفتح ذراعيها لأحد وإذا رغبت في المشي فعليك ان تختار أحد الأماكن المخصصة لهذا الغرض التي بدأ الناس يملون منها ولا تساعدهم ابدا على اكتشاف مدينتهم. حاولت بالأمس المشي في شارع الأمير سلطان بن عبدالعزيز (الثلاثين) وهو طريق مجهز للمشي لكني واجهت مشكلة كبيرة عندما وصلت للإشارة فلا توجد أي علامة للمشاة إلا الخطوط الأرضية التي لا يحترمها أحد مطلقا، وإذا لم تستخدم كل حواسك الخمس قد تتعرض للدهس. يقول لي بعض الزملاء أن المشي ثقافة وأن هذه الثقافة مفقودة بالكامل من مدننا حتى لو قال بعض المسؤولين إننا نريد مدننا أن تكون "إنسانية"، وطبعا موضوع "أنسنة المدينة" وخصوصا الرياض نسي بالكامل أو على الأقل خرج من أولويات الأمانة. مؤخرا قام (دينيس هونج) Dennis Hong بتطوير سيارة يمكن أن يقودها كفيفو البصر، والمشروع أصلا كان نتيجة لمشروع آخر اسمه (داربا التحدي الحضري) DARPA Urban Challenge وكان يهدف إلى تطوير سيارة بدون سائق توجه عن بعد ونتيجة لهذه الفكرة طلبت منه إحدى جمعيات كفيفي البصر كي يطور سيارة يمكن لمكفوفي البصر استخدامها طالما أن هناك إمكانية لتطوير سيارة بدون سائق وفعلا تم تطوير هذه السيارة لكن لم يتم التعامل مع المكفوفين وكأنهم "روبوت" يقود السيارة بل تم تطوير السيارة كي تتعامل مع الافعال الارادية التي قد يقوم بها الكفيف، فمسألة الادراك والفهم والتفاعل مع الحدث كلها وضعت في الاعتبار من أجل أن تكون هذه السيارة آمنة وتستجيب لردود الفعل الانسانية لدى الكفيف. المشروع مر بمراحل تطوير كثيرة وهو الآن في مرحلة الاطلاق وفي اعتقادي أنه يمثل نقلة نوعية سيعيشها المكفوفون في السنوات القادمة وسوف يترتب على هذا المشروع تغييرات كبيرة في التركيبة الحضرية للمدن المعاصرة. الفكرة هنا ترتكز على بناء مدن صالحة لكل الناس الأصحاء والمرضى والمعوقين، وهذا توجه بدأ يطغى على فكر المتخصصين الحضريين في العالم، فالمسألة لم تعد فتح شوارع وبناء حدائق بل تحولت إلى بحث علمي ودراسات واختراعات تساهم في أنسنة المدينة بشكل حقيقي لا مجرد شعارات لا تتحقق إلا على الورق. تخيلوا معي أن سيارات المكفوفين تمشي وسط أي مدينة سعودية، كيف بربكم سيكون الوضع. نحن نفتقر للتخطيط الحقيقي الذي يجعل من المدينة مكانا صالحا لحياة الجميع، وهذا في حد ذاته يجب أن يحثنا على إعادة التفكير في المدينة التي يجب أن نتعامل معها على أنها كائن حي لا مجرد شوارع وأبنية. من المفترض أن نطور عاداتنا وتقاليدنا ونمط حياتنا كي يستجيب لواقع المدينة كما يجب أن نعمل على تطوير معارفنا لخدمة حياتنا المدنية وليس العكس، واقصد هنا أنه يصعب دائما تكييف المدينة كي تتناسب مع حياة الناس لأن هذا يتطلب تغييرا ماديا غير ممكن في أغلب الأحيان ولكن من السهولة تطوير حياة الناس من أجل التكيف مع المدينة إذا كان هذا مرتبطا بدراسة مستمرة. العلاقة هنا هي بين "الثقافة" و "العمران" وأي منهما يجب أن يتغير من أجل أن يحتوي الآخر، ومن المعروف أن المدن تبقى وعمارتها تستمر وأن الناس هم الذين يتغيرون ويتحولون وبالتالي فإن تطوير "ثقافة العمران" لا تعني التطوير المادي للمدينة بقدر ما تعني تطوير الثقافة المجتمعية المرتبطة بالعمران والعمل على بناء وتحسين البيئة المادية لهذه الثقافة. ما أود أن أؤكد عليه هنا أن "التحدي الحضري" يصنع الكثير من الأفكار الإنسانية خصوصا إذا ما كان هذا التحدي مرتبطا بحالات تستحق أن نعمل من أجلها، فعندما تحدث إعاقة لإنسان، لا يجب علينا تركه لمصيره المحتوم بل يجب أن نعمل بجد من أجل إخراجه من إعاقته، والتفاصيل الحضرية التي شهدتها في لندن ومشروع (هونج) الانساني سيجعلان من الحياة الحضرية لمكفوفي البصر مفتوحة وسيتيح المدينة برمتها لكل من يسكنها ولن تفرض على أحد العزلة ابدا، وهذا في حد ذاته عمل عظيم يجب أن نسعى جميعا لتحقيقه.