إن خطر التكفير عظيم، وخطورته لا تقتصر على إخراج مسلم ثبت إسلامه بالشهادتين على الأقل فحسب، بل تمتد إلى إهدار دمه بصفته مرتدا. وقد لا يفيد تقييد المكفِّر لفتواه بقصر إقامة حد الردة على الإمام، إذ إن من الغلاة، والشيخ الجليل يعرف هذا جيدا، من يرى أن الإمام مقصر في تنفيذ الحدود، هذا إن لم يره معطلا للشريعة بكليتها أشرتُ في آخر الجزء الأول من هذا المقال إلى ذلك المذهب الذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً من الخطأ في الأمور الدنيوية، وأن اعتقاده فيها قد لا يكون مطابقا للواقع، إذ قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو، وقلت إن هذا المذهب كان اختيار الأصولي المعاصر الشيخ: محمد بن سليمان الأشقر عليه رحمة الله. والواقع أن هذا اختيار ثلة أخرى من الأقدمين والمعاصرين. فمن المعاصرين، نذكر، بالإضافة إلى الدكتورالأشقر، الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله الذي علق على حديث تأبير النخل بقوله: "الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة؟" أما من الأقدمين، فنشير بشكل خاص إلى موقف ابن خلدون الذي قال في المقدمة:"والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، ليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله، التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه". وكذلك نشير إلى موقف الإمام الشاطبي الذي تحدث، فيما ينقله عنه الجابري، عن الكيفية التي يجب أن تُفهم بها النصوص التي تتحدث عن العلوم "الطبيعية". وهي من وجهة نظره تلك العلوم التي كانت معهودة لدى العرب آنذاك، ومنها علم النجوم وما يترتب عليه من الاهتداء في السير، سواء في البر أو البحر. وكذلك علم الأنواء وما يترتب عليه من علم بأوقات نزول المطر، الذي منه قولهم: "مُطرنا بنوء كذا وكذا" الخ، ليقرر أن العلوم "الطبيعية" التي يجب أن تُفهم من النصوص هي هذه العلوم التي كانت تشكل معهود العرب من العلوم "الطبيعية". والتي خاطبهم القرآن في إطارها فأقر بعضها وأبطل بعضها الآخر، (كالكهانة والسحر). ويتكئ هؤلاء وأولئك على مجموعة من الأدلة، منها: - قوله تعالى:"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي"، وقوله"قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا "، ويعلق الدكتور الأشقر على هاتين الآيتين بقوله:" وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول، وأنه لا يعلم الغيب. ومن المعلوم أنه لما نبأه الله عز وجل لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطئ وتصيب، ولا تعهد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك. وهذا بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. والأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة، لمَّا لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل". - حديث تأبير النخل وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال أنتم أعلم بأمر دنياكم. ويعلق الدكتور الأشقر على هذا الحديث بقوله:"بهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي أصلا عظيما في الشريعة ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعاً لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس". - ما روي عن الحباب بن المنذر في غزوة بدر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:" أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة". وبقية القصة معروفة. - ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة "يا أماه، لا أعجب من فهمك، أقول: زوجة رسول الله وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو ومن أين هو؟ " قال: فضربت على منكبه، وقالت: "أي عروة إن رسول الله كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له". - حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". ومن مجموع هذه الأدلة وغيرها يأخذون أنه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا، كالطب والفلاحة والسياسة وغيرها، كغيره يخطئ ويصيب. من جهة أخرى، قد يتذرع بعض مصدري فتاوى التكفير، وأعيذ شيخنا الجليل بالله أن يكون منهم، بكون المسألة محل النظر، مما هو مقطوع به من الدين بالضرورة، وهو أمر لا يسلم لهم به، ذلك أن تلك القطعية أمر نسبي، فما هو معلوم قطعيته لزيد، قد لا يكون كذلك لعمرو. وهذا ما حكم به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذ قال في (مجموع الفتاوى 23/196): "كون المسألة قطعية أو ظنية، هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مرادَه منه، وعند رجل آخر قد لا تكون ظنية، فضلا عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر الله له). فهذا الرجل شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظَنَّ أنه لا يعود، وأن الله لا يقدر عليه إذا فعل ذلك بنفسه، ومع ذلك فقد غفر الله له". ويقول أيضاً في مجموع الفتاوى ( 13/ 65 )" فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة. وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، لكن أكثر الناس لا يعلمه البتة". وذلك يعني في نظر شيخ الإسلام رحمه الله، أن ثمة معلوما من الدين بالضرورة، لكن علمه الضروري قد يكون عند الخاصة، أما العامة فقد لا يعلمونه بالكلية، ناهيك عن أن يعلموه بالضرورة". إن خطر التكفير عظيم، وخطورته لا تقتصر على إخراج مسلم ثبت إسلامه بالشهادتين على الأقل فحسب، بل تمتد إلى إهدار دمه بصفته مرتدا. وقد لا يفيد تقييد المكفِّر لفتواه بقصر إقامة حد الردة على الإمام، إذ إن من الغلاة، والشيخ الجليل يعرف هذا جيدا، من يرى أن الإمام مقصر في تنفيذ الحدود، هذا إن لم يره معطلا للشريعة بكليتها، ومن ثم فقد يعمد، أو يأمر غيره بتنفيذ ما يراه حد ردة معطلا، لا سيما وأن ثمة(اختيارات فقهية) يعرفها الشيخ جيدا، تبيح للقادرين إقامة الحدود إذا كان السلطان مضيعا لها، أو عاجزا عنها. والله تعالى أعلم بالصواب.