فجأة سقط علينا المطر وكأننا في غابة أحلام طفولية.. فجاء ينهمر بشدة ويترك عنوانية على كل المساحات المحيطة.. وتمادى لنا الطريق المعبد الطويل وهو يزهو بأشجاره ونباتاته وورده.. من الجانبين ويجذب معها أرق أغاني البداوة الفطري.. العثور على واحة خضراء.. سائق السيارة يقف ويبدأ في ضرب زجاج النافذة.. ماذا يفعل؟ أتساءل مبتهجة بتوقفنا تحت المطر.. أبحث عن جوالي بسرعة.. شئ يدفعني لتسجيل هذه اللحظات فأرسل أول رسالة تحكي عن انطباع التحرر النفسي الذي لازمنا منذ أن خرجنا من مطار كولالمبور.. «الدنيا هنا مطر.. مطر.. واخضرار.. وانتعاش». إحساس اليقين... بأنك في مكان تعرفه قبل أن تراه.. وأنك وسط مجموعة من البشر الهادئين.. المسالمين.. والطيبيين والمهذبين.. رغم التفاوت الثقافي والعرقي واللغوي الذي يميز هذه الأجناس.. قبل هذه الاتكاءة المدهشة.. وتحديداً في طابور المنتظرين لختم جوازات السفر تأخرنا كثيراً.. ربما لمدة 45 دقيقة والطوابير الجانبية أيضا لا تتحرك إلا ببطء.. ماذا يفعل هذا التأخير في مطار شاهق الفخامة؟ صاح بعض المسافرين من خلفي معترضين.. معهم أطفال تعبين.. ثم تطور الاعتراض إلى شكوى ورأيت بعضهم يتجه إلى بعض المسؤولين يشكون طوابيرنا المتوقفة ثم لاحظت بأن اللوم ليس بسبب روتين المطار وإنما على كروت الوصول التي وزعت على الركاب أثناء الرحلة والتي لم يملؤوها بالمعلومات المطلوبة.. والصراحة بأن كثرة تفاصيلها تذكرنا بالاستبيانات لذلك أوقفت الطوابير لكي يكمل كل راكب معلوماته.. غير أن التفاعل مع الملاحظة جاء سريعاً.. وتحرك الطابور أخيراً.. وتحركنا معه.. مضت أيامنا الأولى وعائلة صديقه تمرح بنا من بين أرجاء المدينة.. ووجدت بأت حالة الاسترخاء التي انتابتنا وجعلت بعضنا ينام بسهولة حدث يستحق الالتفاتة.. وسمعت ابنتي المراهقة تقول لخالها عندما سألها كيف أيامك هنا.. اغمض عيني وأنام أول ما أضع رأسي على المخدة.. كذلك أمي.. تنام. ولو؟؟ ما كنا ننام في جدة؟ لا.. ما كنا ننام.. بل نسهر مع الساهرين ويطاردنا الصخب الصيفي، ثم وجدنا أننا نسترخي أكثر.. نخاصم نشرات الأخبار والفضائيات والانتريت إلا في حدود قليلة.. في الأسواق الأنيقة زوار كثيرون حتى يخيل إليك أنك في الرياض أو جدة.. ولكن مع ذلك فكل شيء مقبول وفي حاله.. وفي رحلة خارج المدينة واجهتنا الجبال الخضراء ومساحات لا منتهية من بهجة الطبيعة.. مواقع.. ومرفأ.. وشواطئ وملامح الحياة هنا ما زالت متمسكة بطبيعتها.. وضحكت رفيقتي الماليزية عندما حاولت أن أحلل إحساس الاسترخاء الذي ينتاب الناس.. فقالت.. إنها أنفاس الغابات والأشجار التي تطلق الأوكسجين الذي نحتاجه.. ثم دارت بي في زحام العاصمة ذات ضحى وهي تقود بنا سيارتها.. والزحام المروري شيء معهود هنا ولكن بنظام متفق عليه وعندما أرادت التوقف في مكان يكاد أن يكون مشغولاً.. أطلت إلى رجل أمن وسألته أن يساعدها.. فسمح لها بالعبور بأدب وبدأت أسألها.. هل تعطيه إكرامية؟ عبست ملامحها وهي تقول.. لا شيء.. ثم ضحكت وهي تذكرني بأنه يؤدي عمله.. لا أكثر.. وسرحت في تأمل حالة التطور الحضاري الذي يميز هذا البلد ، وهؤلاء العاملون في المطارات والأسواق والأماكن العامة فعلا لا يتوقعون إكراميات حتى اننا لم نشاهد متسولاً واحدا حتى الآن! ووجدت بأنه أثناء نقاش اجتماعي ذات مساء مع عائلة قريبة بدأنا نستفسر عن دوافع هذه المزايا الإنسانية والحياتية. وقال أحدنا.. انه الانضباط.. وهو قد يكون العامل الأكثر تأثيراً في تحضرهم فهناك دول آسيوية أخرى تضج بالمخترعين والأذكياء إلا أن إنجازاتهم تبقى في حدود فردية وليس في مستوى كيان بأكمله مثل تجربة ماليزيا الحضارية.. الآن أدرك سر شعبية هذا المكان.