يعكس وسط المدينة أو مركزها هويتها وروحها الكامنة، ومركز المدينة في المدن الحديثة يمثل عادة واجهة جذب تجاري وثقافي وسياحي؛ حيث المدينة تفر من سطوة غابات الأسمنت، وتستنطق ذاكرتها العريقة الأولى، وإرثها الذي يمايزها بجميع مكونات أصالته وجماليته وخصوصيته. ووسط المدينة بالاضافة إلى أهميته التجارية والسياحية، على الغالب يكون حافلا بالفعاليات الاجتماعية والثقافية والشعبية، فمثلا في باريس المسافة من كنيسة نوتردام إلى قوس النصر وعلى جنبات نهر السين مفاجآت لامتناهية بين جماليات المباني الأثرية والمتاحف وتوهج مدينة نابضة بالحيوية والفنون، وفي مدينة اسطنبول حكمت محكمة مؤخرا بإزالة عمائر أسمنتية من الممكن أن تشوه المنظر التراثي الجميل للمساجد والمآذن والقصور العثمانية العريقة في منطقة (السلطان أحمد) حيث الأسواق المسقوفة، والنشاط السياحي الكثيف، والتاريخ الذي يغور عميقا وصولا إلى بيزنطة. الأسبوع الماضي ذهبت إلى منطقة وسط مدينة الرياض برفقة صديقة ألمانية، وتجولت برفقتها حول الساحات المحيطة بقلعة المصمك، والجامع الكبير، وسوق الزل..مع الأسف كانت تجربة محبطة يخالطها بعض الإزعاج. تلك المنطقة والحق يقال تمتلك بنية تحتية رائعة، من مبان أثرية مرممة، وساحات رخامية مرصوفة، وإنارات جمالية، أي كل البنى التحتية التي من الممكن أن تستقبل مشروعاً حضارياً وثقافياً رائعا لولا .. أولا :- غياب الأنشطة التراثية والثقافية تماما عن المكان، على حين قد يكون هناك هو المكان المثالي لتأسيس جنادرية مصغرة كامتداد حيوي وطبيعي للنشاط الذي يعكس تجليات إرثنا الثقافي والشعبي، بجميع غناه وألوانه. ثانيا :-المنطقة هناك تحفها المحلات التي تبيع المنتجات الصينية الرخيصة دون أن نجد أي منتج يعكس ثقافتنا المحلية أو مشغولاتنا اليدوية أو بروشورات وكتيبات حول تاريخ المنطقة وخرائط للتجوال في المكان، أو حتى منتجات مصنعة خارجيا ولكن تمثل هوية المكان، بينما في روما جميع المحلات التي تحيط بالأماكن الأثرية والسياحية ترفع لافتة نحن لانمتلك بضاعة صينية !! ثالثا :- الساحات الرخامية أمام المسجد يتلاعب بها الأطفال الآسيويون بالكريكت، وآخرون يلعبون بالدراجات والزلاجات ويتخاطفون بين المرتادين بشكل مزعج ودون ضوابط وقوانين تراعي سير الزوار، أذكر أنه في السابق كان أمام المسجد الكبير نوافير وتشجير تعكس اهتماما وفجأة خبت وتلاشت، واستبدلت بافتراش المتنزهين وبقايا قراطيس طعامهم بشكل مقزز يعطي انطباعا بدائيا مزعجا. رابعا:- أجواء الساحات هناك يغلب عليها الإهمال والكآبة مع غياب الاهتمام بالصيانة والنظافة والتشجير. خامسا: كان الوصول إلى هناك مزدحما صعبا، مع غياب المواصلات العامة التي تكون عادة حول الأماكن السياحية. المكان تحفه الكآبة والإهمال، طوال تجوالي هناك لم أجد نبتة شجر واحدة ترطب المشهد أمامي وتعطيه حيوية، لم أجد محلا واحدا يبيع تذكارات السياح ومقتنياتهم، لم أجد مقهى شعبيا لائقا من الممكن أن نتناول فيه القهوة أنا ورفيقتي ونثرثر حول تاريخنا، فانعطفت بها تجاه سوق الزل، والذي وجدته أيضا يكابد الإهمال وغياب الوجوه المحلية وبعد أن افترسته العمالة الآسيوية بشكل شبه كامل. المفارقة هنا أن رفيقتي كانت تعرف بأن هذا هو المكان الذي يطبق فيه القصاص!! ووجمت حين قالت لي هذا..وتساءلت في أعماقي بحرقة.. هل هذا ما ستحمله ذاكرتها عن المكان وسكانه؟! ومحبطة تساءلت أيضاً هل هذا هو وسط الرياض وروحها وذاكرتها الأولى؟ هل هذا هو المركز الحضاري للعاصمة؟ هل هذا هو واجهتنا السياحية الأولى؟ من المسؤول .. بل أين المسؤول؟ وسط العاصمة بحاجة إلى خطة إنقاذية عاجلة قبل أن يفتك به عنكبوت الإهمال..