على مدى قرن من الزمان تقريبا، كانت الأصولية بكل أطيافها تنسج للمتلقي الجماهيري الحالم أجمل الوعود التي من شأنها - لو تحققت بأنى مستوياتها - أن تنقله من جحيم الواقع إلى الفردوس الموعود. ورغم سذاجتها كأحلام واعدة، إلا أنها لم تكن مجرد خطرات عابرة في خطاب عابر، بحيث يمكن تجاوزها على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة، بل على العكس، تجاوبت الأقلام تلو الأقلام، وعلى مدى أجيال، ومن كل تيارات الإحياء / النهضة، تلك التي كانت تحمل جرحها النرجسي النازف -؛ لتجأر - تحت وطأته - بملايين الخطب؛ ولتنتج آلاف الكتب؛ ولتجترح شتى التصورات والمفاهيم التي تراها كفيلة بارتياد عالم واعد بما هو أبعد من واقعها : الواقع الأليم . إذن، وعلى هذا الأساس، يتضح أن وعد الأصولية وعد ضخم، وعد شغل الأمة الرازحة تحت عبء تاريخها الطويل، لكنه بدل أن يملأ واقعها ولو بالقليل مما يفيد، ملأه بأحلام الفجر الكاذب، ملأه بالأحلام التي كونت تراثا ضخما من الشعر ومن النثر ومن الأغاني ومن الأفلام التي يخيل إلى المرء من سحرها أن النهضة ستأتي بدَلّها ودلالها، تجرّر أذيالها!، راكعة تحت أقدام هؤلاء الحالمين. لقد نفخت الغفوية بكل هذا التراث الضخم من الوعود الأصولية. وأقصد بالأصولية هنا الأصولية بمعناها العام الذي يتجاوز الديني إلى القومي، وإن تكن في الديني أظهر وأقوى. صعّدت الغفوية من نبرة التحدي الغبي، وقامت بتوسيع دائرة الحلم الذي يمثل التوق الطوباوي إلى قيادة البشرية من أقصاها إلى أقصاها، بدل أن تكتفي بحدود الأهل والعشيرة؛ كما هي حال القومية التي بدت متواضعة في أحلامها مقارنة بمن يحلمون بغزو العالم، وإنشاء أعتى الإمبراطوريات. تمادى الحلم الواعد إلى آماد غير محدودة، آماد مطلقة لا تقف عند حدود الحلم فضلا عن حدود الواقع. نما هذا الوعد، وأوغل متناسلا في كل الاتجاهات؛ لأن صُناع الحلم لم يكونوا هم من يمسك بالواقع. أي أن صُناع الحلم كانوا طوال فترات صناعة الحلم مجرد متفرجين من الخارج على مشهد الواقع الذي ليس لهم فيه أي إسهام حقيقي. ومن ثم فقد كانوا يجهلون الواقع الذي يحلمون بتغييره. هذا يعني أن الحلم نشأ في معزل عن الواقع الذي يُراوده؛ فكانت إسهامات الحلم جزءاً من آليات تزييف الواقع، لا جزءاً من الحل ؛ لأن الفهم - كخطوة أولية في هذا المجال - كان مستحيلا، ومن ثم استحال الحل، بل كان الحل المتوهم هو صانع أعتى الإشكاليات إعضالاً، إلى درجة أننا في السنوات الأخيرة استنزفتنا محاولات الخروج من أسر الحلول المجترحة أصوليا؛ حتى لكدنا نقنع بواقع التخلف بعد أن كاد يلتهمنا واقع الإرهاب. عندما كانت الأصوليات في موقع المعارضة كانت تصنع الأحلام كما تشاء، كانت فرصة للتوسع، ولكن على خارطة الورق. اليوم هي في موقع الحكم، في الموقع الذي يصنع الواقع، هي اليوم تواجه الواقع بكل تحدياته، بعيدا عن ترف الأحلام. إن الأناشيد عن ابن الوليد وطارق وصلاح الدين وكوكبة الفاتحين تبخرت على وَقْع سخونة الواقع المتحدي بمكوناته التي لا يمكن لأحلام اليقظة أن تطلق النار عليها، فأصبح تعبيد طريق هامشي، وإنشاء محطة للكهرباء محدودة، وتوفير وقود للطاقة، وشيء من الأمن للعابرين على رصيف الحياة، هو التحدي الصغير الذي يقوّض الحلم الكبير؛ لأن سدنة الأحلام بدوا - من قريب - وكأنهم يغرقون في شبر ماء من مياه هذا الواقع الذي بدأوا - للتو - يتحسسون أعماقه، فأدركوا - دون أن يعترفوا صراحة - بأنهم غير قادرين على عبوره إلا بشق أنفس التنازلات التي تخرق بالونة الأحلام، وتسقط رُوّاد فضاء الحلم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين. الواقع هو الواقع، هو الحقيقة الصلبة، ولهذا يفرض قوانينه على الجميع. لا فارق إلا في طريقة التكيّف التي تنتج شعاراتها، تلك الشعارات التي لا تغير الحقيقة، وإنما تكتفي - فقط - بتلوينها. ومن الواضح أن هذا هو سبب في أن سلوكيات الأصوليات التي حكمت بعد موجة الاحتجاجات لم تختلف عن سلوكيات الحكومات السابقة، بل تماثلت إن لم تتطابق تماما؛ لأنها اشتغلت على واقع، على واقع فكري/ ثقافي، وعلى عملي/ مؤسساتي لم يتغير. ومن هنا تحكّم فيها الواقع بدل أن تتحكم فيه، فانتهجت السياسات التي كانت تهاجمها من قبل، بل وانتهكت كثيرا من المحرمات التي كانت تستخدمها في شيطنة الحاكمين يوم كانت في صف المعارضة، مبررة ذلك بدعاوى الاضطرار، وكأن الواقع الذي يضطرها الآن، لم يكن يضطر من سبقها من الحكام. الأصوليات الحاكمة بدأت تتكلم عن شروط الواقع وإلزاماته، وتلح على التصريح بأنها لا تستطيع اجتراح المعجزات، وأن على الجماهير (الجماهير التي وعدتها بالفردوس عما قريب) أن تنتظر ريثما تستقر الأوضاع، وطبعا دون أن تحدد خريطة واضحة لهذا الاستقرار، ولا الحد الأدنى منه، خاصة وأن مسألة الاستقرار مسألة نسبية، بحيث يصعب ضبطها؛ هذا إن لم تدخل في نطاق المستحيل. كل مَن يُراقب تخبّطات الحُكّام الجُدد من الأصوليين، لا بد وأن يُصدَم بهذا الكم الهائل من التنازلات التي طالت كثيرا من المبادئ التي كانت منطلقات عقائدية للتجييش الأصولي ضد نمط الحكم السائد في مرحلة ما قبل موجة الاحتجاجات التي أتت بالأصوليين إلى كراسي الحكم. مَنْ يُصدّق أن الذين كانوا يتهمون كل من يُقيم علاقة علانية مع إسرائيل بالخيانة، هم الذين يُزايدون - بعدما ظفروا بالحكم - على سلمية العلاقة مع إسرائيل، مبررين ذلك بذات التبرير (بل وباللغة نفسها) التي كان الحُكّام العلمانيون يبررون به علاقتهم بها (= إسرائيل). أقصد أنهم باتوا يدركون أن إشكاليات السياسة هي إشكاليات واقعية/ عملية، وأن العوامل الإيديولوجية ليست إلا عوامل مساعدة، تُستخدم للتبرير وللتحوير وللتجييش، بل وللمراوغة السياسية في كثير من الأحيان. لقد بات من الواضح أن الحكام الأصوليين الجدد يمتلكون حِسًّا براجماتيا يفوق ما كان عند سابقيهم من الحكام. حتى اللغة التي يتوسل (أو يتسول!) بها هؤلاء الحكام الجدد مراكز القوى في العالم المتحضر هي أشد خنوعا واستسلاما من لغة الحكام المخلوعين الذين طالما أتبعهم الأصوليون باللعنات، وقلبوا لهم (لغويا) شعارات السلام إلى اتهامات بالاستسلام!. حتى الموقف من الإرهاب، وهو من أشد الأمور حساسية في الرؤية السياسية للأصوليين، بات موقفاً غير أصولي !، أقصد أنه ينتهج نهج الحكومات السابقة في التعاطي معه، بوصفه خروجا إجراميا على الشرعية القانونية والأخلاقية، يتطلّب أن يكون التعامل معه بأقصى درجات الحزم والحسم. ولا شك أن هذا هو عكس ما كانوا يرونه يوم أن كانوا في صفوف المعارضة، أقصد عندما كانوا يرون جرائم الإرهابيين مجرد عمليات احتجاجية مشروعة، يكفي أنها تنهك قوى الخصم الحكومي من جهة، وتعزز من مصداقية دعوى الاعتدال التي يطرحونها عن أنفسهم من جهة أخرى، بوصفهم يمثلون الحراك الإسلاموي السلمي، مقارنة بمن يرفعون - صراحة - شعارات التكفير، ويمارسون - تبعا لذلك - القتل والتفجير. لقد كانت الأصولية الحركية (= الإسلامية) على ثلاثة توجهات في الموقف من الإرهاب المسلح : الأول : يرى وجوب دعم الإرهاب بالمال والسلاح والإعلام والفكر قدر المستطاع، وحسب ما تسمح به الظروف ؛ لأنه يرى (الوحدة) في جميع ألوان الطيف الأصولي!. الثاني : يرى شجب الإرهاب علانية؛ مع الفرح والابتهاج بوجوده سراً كظاهرة غلو خوارجي صارخ، أي كظاهرة من شأنها أن تضع قادة الخوارج في دائرة المعتدلين، وأن تظهرهم بصورة رموز الدعوة للاعتدال وللسلام، مقابل دعاة الحرب والقتل والتفجير. الثالث : لا يرى الدعم المباشر، ولكنه في الوقت نفسه لا يرى الشجب؛ لأنه يتصور أن في ذلك إنهاكاً للرؤية الإسلامية بالطعن عليها من الداخل، أي أنها - وفق هذه الرؤية - إدانة ذاتية تضر بالمشروع الأوسع للعمل الإسلاموي استراتيجياً أكثر مما تفيده تكتيكياً. وهذا الرأي هو ما يتبناه الشيخ : محمد قطب صراحة، وتبعه في ذلك كثير من التوابع، ومن توابع التوابع لدينا، ممن لم نسمع لهم كلمة صريحة في إدانة الإرهاب؛ إلا إن كانت إدانة مسبوقة بالتبرير والاعتذار، وربما مختومة بالتهديد وابتزاز المبطن !. هذا ملخص موقف الأصولية من الإرهاب المسلح. لكن، اليوم لم يعد لكل هذه التوجهات أي محل من الإعراب؛ لأن الإرهاب بات مشروع تمرّد يتحدى مشروع السيطرة الأصولي من داخله. ومن هنا، بات الأصوليون يمارسون ذات (القمع!) الذي كانوا يشجبونه في التعاطي مع خطر الإرهاب، متناسين كل الخطب وكل الكتب وكل المحاضرات وكل المقالات التي أنتجوها في سبيل تحميل الحكومات السابقة مسؤولية استثارة الإرهابيين (المسالمين) بالقمع المتوحش، مع أنهم اليوم باتوا يُلَوِّحون به (= القمع المتوحش) صراحة، وكأن إرهابيي اليوم ليسوا هم إرهابيي الأمس!. إن هذا يؤكد أن الإرهابيين في زمن الحلم ليسوا هم الإرهابيين في زمن التجريب؛ لأن الجريمة على الورق ليست هي الجريمة في الواقع، إن مواجهة الجريمة بكل مكونات الخطورة فيها ليس كاستخدامها في النضال الفكري ضد الخصوم. طبعا، هناك من كان يُراهن على أن وصول الأصوليين إلى الحكم سيقنع جماعات الإرهاب بإلقاء السلاح؛ لأن المطالب التزمتية سترى النور من خلال حلفاء التطرف. نعم، هناك من كان يطرح أن سبب هذا الجنون الإرهابي الذي ينتظم العالم الإسلامي، يكمن في أن مستوى الأسلمة في المؤسسات الحاكمة، وفي المجتمع، ليس بالمستوى المطلوب الذي يقنع تطلعات الشباب المتدين الممتلئ حماسا، وأن الحل يتحدد في الاستجابة لمشاريع التزمت من أجل قطع الطريق على دعاوى الإرهابيين. وقد طرح أحد رموز الغفوية من عرّابي التيار القطبي السروري لدينا وساطة بيننا وبين الإرهابيين عندما أعلنت قاعدة الإرهاب الحرب علينا، وكانت وساطته تتلخص في أن نخضع لرؤيتهم بكل تفاصيلها مقابل أن يمنحونا الأمن والسلام !. هذه الرؤية لم يتضح زيفها في أي وقت مضى بقدر ما اتضح الآن. الآن، الأصوليون هم الذين باتوا يحكمون في أكثر من بلد عربي، وهذه البلدان بالذات بدأت تعلن عن تخوفها من استشراء التطرف والإرهاب وخروجه عن سيطرتها، وقد طرحت بالفعل مشاريع أمنية لمراقبة الخطب والمواعظ والمنشورات. أي أنها ستفعل ما كانت تشجبه من قبل ؛ ليس لأنها كانت تخادع فحسب، وإنما - أيضا - لأن الإرهاب هو التجلي الفعلي لعقيدة الخوارج التي لا يقف غلوها عند حد. إن الخوارج لم يرضوا عن الإمام علي - عليه السلام -، فكيف يكون موقفهم من غيره؟ أي أنك اليوم - وفي أي يوم - لو أتيتهم بحاكم بنزاهة وتقوى ودهاء الإمام علي، فلن يرضوا عنه، وسيعلنون عليه الحرب. ومن هذه الزاوية تحديدا، أي من زاوية أن الفكرة الأصولية يستحيل تأطيرها - سينهار الحلم الأصولي، إما بتحوّل الأصوليين، وتنازلهم عن المقومات الأساسية لإيديولوجيتهم، وإما بالانتحار على عتبة المزايدة على دعاوى المتطرفين..