هل فكرت يوماً أن تنتزع مشاعرك منك؟، أن تنال من احتدام المشاعر بداخلك بشكل يذكّرك كل ساعة أنك لم تعد متمسكاً بحبل الرجاء؟، ألم يخطر ببالك أن تستعيد الشعور بحسن الظن بنفسك.. حين لم تعد تتوخّى التصرف السويّ مع شركائك في الحياة، وفي العمل، ومع الجموع، والأهل والجار الجُنب، والأصدقاء، حين تغلّف مشاعرك بالحديث المطويّ داخل صندوق يسرقه لصّ متحذلق، وأنت تُمثّل دور الغافل عنه، وحين تكبح ما استجمعته من كلام، هل تبقى واقفاً على محيط دائرة التغاضي مثلاً؟، أم تُعمّر بقلبك مملكة الصمت، ولا تندد بفقدان ساكنيها -على الرغم من الحشود اللانهائية - دون الحاجة لتفسير هذا الإصرار على الكتمان بداخلك، هذه الإساءات التي سببتها لنفسك حين مثّلت بهدوئك كل أوجه الفشل، حين أعتاد الآخرون أن تتجاوز أخطاءهم لتحافظ على توازن العلاقات معهم، بينما هم يمضون في حياتهم غير منتبهين أنك لم تتمكن من غسل خطاياهم، ولن تسامح نفسك على تجاوز كهذا. قوانين فيزيائية يبدو أن العالم لم يتسلح بالفهم الكافي لسبر أغوار المرء، يبدو أنَّه لم يستوعب بعد أنَّ ثمَّة قولٌ لا يقال، مجموعٌ في فوَّهة بركان خامد يتمنى التخلص من نفسه، كما يبدو أن العالم لم يتنبأ - وهذا ليس من شأنه - بالمآزق التي تجعل الناس حذرين أكثر مما يجب، ولا بالدوافع التي تجعلهم يثنون أيديهم عن مدها للعون، ولا حتى بالضرائب التي يدفعها أولو الوهن منهم، وهذا كله ليس من شأن العالم، على المرء أن يدرك أنَّ هذا الوعاء يخصَّه وحده وعليه إفراغه بنفسه، عليه أن يتعلم المقدار، والنسبة والشغل، والفراغ، وكذلك القوانين الفيزيائية كلها التي تجعله يقتصد في استهلاك جزء التحمّل بداخله، دون أن يفقد خليَّة واحدة من خلايا القلب، أو العقل، عليه أن يتعلم كيف يقول: "لا" حتى في وجوه الأشخاص الطيبين، أن يطرد المُداهنة التي أفسدت حياته، ويكتفي بالتأمل حين لا يرغب بالكلام. تعاسة الكتمان لا تكتم مشاعرك في حضرة الحب، أرأيت لو أنَّك قلت الكلمة التلقائية الناعمة، لو أنَّك استثمرت اللحظة لمبادلة الأرواح والحواس، لو أنَّك اعتنقت المشاعر بطبيعتها دون خوف من جاذبيةٍ ما، إنَّك لن تستطيع أن تغفر لنفسك كيف أحدثت هذا العطب، وتحمّلت تعاسة الكتمان، على الرغم من وجود الحب في كل حالات الحياة، لن تغفر لنفسك كيف لم تعد تمتلك الوقت الآن لتفصح عما كنت تود قوله في الماضي، حين خبأته كما لو كان سراً مخيفاً، وتأخرت كثيراً في إفشائه، من المؤسف قول هذا لكنَّك لن تستطيع فعل ذلك الآن. ثورة الكلام في الحجرة المظلمة بداخلك ثمة وسائد، وقناني فارغة، وشرائط فيديو، والكثير جداً من الكلام تحت وطأة الملاحظة، والتهذيب، كنت كمن ينتظر أن يسقط شيئاً من السماء كفرصة قادمة تُبدِّد فكرة القمع، والمماطلة المُكره على فعلها، وما من سبب يدفعك لفعل ذلك سوى الحدس الخاطئ الذي وعظك بالإمساك عن القول، وإخماد ثورة الكلام، دون أن يخاف من تخبّط سلوكك مع الناس كما يفعل المجانين، كان يقترح عليك أن تحافظ على فخامتك بالسكوت، والتريث الذي يُكلِّف ثمنها إزهاق روحك دون أن يضع الصراحة خياراً قريباً، أو على الأقل ألاّ يسلب حقك في الصراخُ والتعبير بحرية، ويرفض أي فعل يؤدي إلى عنف داخلي سببه القمع . شكوى النفس لطالما تجنبت الحديث عن مشاعرك، وتحاشيت المَساس بها حتى ظننتها صورةً جزئيةً عن التهلكة، لطالما تشاغلت بإغراق الصفحات والملامح حد الامتلاء، ووضعت نظَّارتك جانباً؛ لتمارس الشكوى من نفسك على نفسك؛ بسبب هذا التضخم الذي لم يَعد يُطاق، كنت تريد من الحياة ما يجعلك متماسكاً أمام هذا الحشد المكتنز بقلبك، كنت كالعليل المحتفظ بالبكتيريا بداخله، مُستنكراً عدم تأدية أعضائه وظائفها الفسيولوجية، كنت كرجلٍ مُسن لم يجف شعوره باليتم، على الرغم من الكهولة، يناشد أحداً معلوماً - هو يعتقد أنه مجهول - أن يربُتَ على كتفه، ويعظه ألا يحزن وذلك لأن الله معه. تجارب حياتية أن تكون جاداً دون فظاظة، صريحاً دون وقاحة، أو تكون مُباشِراً دون تزمت؛ فأنت واحد ضمن الأشخاص الشفافين الذين لا يبدو على وجه أحدهم البؤس، سوف تتحقق من أنك تفعل الصواب، وأنَّك وصلت لأصدق تجارب حياتك، حينها ستكون راضٍياً عن نفسك، حين تنظر إلى الأمور بطريقة مغايرة أقرب ما تكون إلى نظرة نظيفة خالية من غبار التملّق، والنفاق، أخبر صديقك أنَّكما غير متفقين بشكل واضح، لكنك تحفظ له الود، لاطف جارك بعبارات لم تسمعها أذنه من قبل، ثمَّ اطلب منه باحترام كبير ألاَّ يركن سيارته أمام منزلك، صارح مديرك بأنَّ زمن الاجتماع يجلب لك الأفكار المملَّة، على الرغم من أنَّك تقوم بواجباتك حيال كل شيء. صوت مسموع هل فكّرت بأن تكون فارغاً خفيفاً، أعني فارغاً من الحشود، ومن الكلام، ومستندات النص، ليس فارغاً تماماً، ولكن لا تحتفظ إلاَّ بالمقدار الذي يبقيك ثابتاً على سطح الأرض، المقدار الذي يجعل إمكانيَّة طيرانك بخفَّة لتُجرّب الحرية الكافية في تسمية الأشياء بمسمياتها أمراً ممكناً، أن تُظهر قدرتك على إمساك الكلمة من رأسها، ووضعها في المقدمة دون أن تسعى جاهداً إلى أن تعرقل مشيتها، أو أن تُصيبها بالشلل، أن تتحدث دون خجل عن رأيك حول رعونة ذاك النص، وعن مرارة تلك القهوة، وعن بشاعة تلك اللوحة، بصوت مسموع يترصد احتمالية حدوث ما قد يثير الضوضاء والارتباك، هل فكرت في الخروج منك دون أن تخشى تغيّر الهواء عليك؟.. هل حقاً فكرت في ذلك؟.