قالت تسترجع شيئاً من رؤاها معي: ما زلت أعود لهذه الذاكرة كلما وددت أن أمرح قليلاً أو أهدأ. أتأمل قدرة الأشياء البسيطة وهي تغمرنا بالفرح الصغير فأنجذب لها أكثر. أذهب إلى حديقة منزل شاسعة في ويملي بلندن حيث كنا ذات صيف وحيث اخضرار الحشيش المنبسط وشجرة التفاح الصغير، زهور ملونة تملأ المكان مع قريبات زائرات. أطفالنا يمرحون حتى اننا لا نشعر بحاجة للخروج اليومي، عكس الذين يقطنون الشقق السكنية المغلقة. نتصرف كما كنا في كشتة بر وتهفو بداوتنا للمساحات الممتدة فنأخذ بساطاً للحديقة، نضعه فى وسط المكان ونجلس. ثم نأتي بشاي العصر والكيك ومشتقاته... وتمر نسمات الصيف العذبة نستنشق معها إحساس الانفراد بما يبدو ربيعاً صيفياً دائماً. كم كان الشعور مبهجاً. ذلك الصيف لم تمطر كثيراً على الأقل في بدايته وكنت أترقب مخلوقات الله حتى غير المتوقعة منها في الشارع الذي يقع فيه بيت العائلة.. وتضحك مسترسلة...فى غرفة عمة المسنة فى الدور العلوي التي كانت تزاملها فيها العاملة صوفية والتي جيء بها من جدة كي تطبخ للعائلة، نافذة تطل على البوابة والطريق. كل يوم تمتعنا بسرد ما تشاهده حتى صرخت ذات يوم وهي تحلف بأن ثعلباً مرّ من أمام المنزل! ثعلب؟؟ ثعلب يا عمة؟ ربما أخطأتِ ربما كان أحدهم يتمشي مع كلبه. لا لا لا كان ثعلباً..أنا متأكدة. تبادلنا النظرات نكاد أن نضحك ونخاف فى آن واحد، ولكن احترامنا للمرأة أوقف النوبة. وبقينا نتساءل بدهشة كيف أتى الثعلب لضاحية عصرية مرتبة وهي ليست من بيئته، هل يمكن أن يكون خيالها واعتياد حكي القصص للصغار؟ ولكننا نتذكر الغابة القريبة ربما هناك صلة، ربما هناك تفسير. لم نعرف عندها، غير أنها في اليوم التالي جاءتنا تصيح مهرولة " تعالوا تعالوا شوفوا الثعلب". وهرولنا معها...وصحنا –اي والله فيه ثعلب...ولكن الصغيرات صرخن فى فزع أكبر! على الجانب الأكثر أُلفة كان الحمام يفترش الحديقة بأكملها فى الصباح المبكر ويمنحنا توحد لونه الأبيض مع اخضرار المكان. لم أر مشهداً بهذة الروعة من قبل فهو يأتي ويبحث عن خبز وحبوب متناثرة نتركها له ولكنه يتصرف بروح جماعية منظمة. وحينما يستيقظ أحدنا فجراً ويمر قريباً من النافذة المفتوحة وضوء النهار ما زال خافتاً تفاجئنا رفرفة حركته فجأة. ذات يوم أحضرت فولاً سودانياً وصرت انثره له، وفي غمرة ابتهاجي ظهر سنجاب فجأة ووقف يتابع وهو الذي يخشى الناس ويهرب دوما. ولم أصدق انه يقف على بعد خطوات مني منتظراً دون خوف. هرعت للمطبخ وأحضرت مزيداً من الفول أضعه أمامه فيقضم ويحمل ما يستطيع ثم يفر هارباً وهو يتقافز من مكان لآخر. وبقي الحمام حدثاً أليفاً وجزءاً من المكان. تلك الأيام كانت تشبه فصولاً من أفلام كرتون يشاهدها الصغار ويهربون إلى عوالمها غير ان في تجربتي كانت استراحة منعشة مليئة بالدهشة والوضوح الجميل......