إني لأعجب كلما قرأت سيرة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت فيها صفحات مشرقة مضيئة كشمس أطلت على الكون ليس دونها قتر ولا سحاب، فأضاءت ما حولها، ونشرت أشعتها ببريق يخطف لب الناظر، ويثير مشاعر الشاعر. فأتساءل لماذا تخفى مثل هذه الصفحات من سيرته، ولماذا تغيب هذه المفاهيم من أخلاقه، ولماذا يركز المسلمون اليوم على غزواته وفتوحاته، مع أنها لم تكن يوما ما غاية أو هدفا. ألهذا السبب نرى شبابنا يتواجدون ويتفاعلون مع كل حدث يكون فيه قتال أو اقتتال! ألهذا نرى شبابنا يتسابقون إلى كل بقعة تراق فيها الدماء، وتشهر فيها الأسلحة، وتختلط فيها الأهداف ؟ ألهذا نهب لكل صرخة يزعم فيها الجهاد حتى وإن كان الطرف الآخر هم أهلنا وأصحابنا ؟ هل ديننا دين حروب واقتتال، هل الجهاد غاية فيه أم وسيلة ؟ أين شبابنا، بل ودعاتنا عن الدعوة بالكلمة بالخلق بالقدوة بالحكمة بالموعظة الحسنة ؟ أين هم عن إخوان لهم يتشوقون لسماع كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يسمعون منا إلا انتقادا حادا لجهلهم أو ضلالهم أو بدع يعملون بها، ونحن لم نبذل في سبيل تعليمهم ولا الدفاع عن عقيدتهم ضد الجهل والخرافة إلا الانتقاد، والتعيير، والسخرية ! حتى أبناء المسلمين الذين يفدون إلينا في كل عام مرة أو مرتين يعودون كما جاءوا، لا يرون داعية أو يلتقون عالما ! ثم نلومهم، ونعيرهم بالجهل والضلال المبين ! لقد جرتني لوحة المفاتيح لأستطرد في هذا ولست أريده، لكنها الغصة التي خنقتني وأنا أقرأ هذا الجانب من سيرته عليه الصلاة والسلام، وانظر في شرح العلماء لها، ونظرتهم إليها، ثم أفتقد ذلك في واقع أعيشه، فلا أراه حتى في أناس يلبسون ثياب الدعوة والنصح والإرشاد، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. في السيرة العطرة قصة صلح الحديبية، وهو صلح غص بالفوائد والقواعد، آخذ منه جزءا واحدا مما جاء في الصلح حيث سار النبِي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل، حل . فألحت ، فقالوا: خلأت القصواء . فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. إنها مجرد ناقة، لا يضيرها ما يقول الناس وما يظنون، لكنه الخلق الرفيع، والإنصاف العظيم، والعدل الذي جاء به صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يذب عن عرض ناقة عرفها وسبر حياتها، حيوان مسخر لخدمة هذا الإنسان، فقام بما سخر له خير قيام، ثم عرض له عارض، لم يعرف سببه من حضر، فظنوا بها شرا، واتهموها فكان الذب عنها منه عليه الصلاة والسلام! وعلل صلى الله عليه وآله وسلم فعلها، وبين عذرها، وأوضح للناس أن ما فعلته ليس من عادتها ولا من خلقها، لكن شيئا فوق طاقتها حبسها، ومنعها من السير. يا الله، ما هذا الإنصاف؟ وانظر كيف يكون تعاملنا مع الخطأ الذي لا نملك له تأويلا في أذهاننا، ونعجز عن تقبله ممن هو أفضل منا وأعقل وأورع وأعلم، فنبدأ في اتهام نيته، وتحليل مراده، والجزم بكل صيغة ممكنة على انحرافه وضلاله، وأنه أصبح تغريبيا عميلا، أو تمييعا متساهلا، أو نكص على عقبيه وقبض الثمن ! سبحانك، ما هذا البهتان العظيم؟ وما هذا الفجور في الخصومة ؟ كيف نوفق بين أخلاقنا اليوم وبين خلقه صلى الله عليه وآله وسلم مع ناقته، ودفاعه عنها ؟ إني لا أشك أن قائلا ممن سيقرأ ذلك سيجد جوابا مقنعا لذاته، متوافقا مع هواه، سيقول: لقد كانت ناقته صلى الله عليه وآله وسلم خيرا من كثير من رجالنا اليوم ! لا جرم أن غياب الأمثلة الناصعة البيان من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم، واختزالها في بعض الغزوات، رسم في أذهان شبابنا وأجيال منا أن ديننا يحمل في طياته ما يفرق الناس ويسفك دماءهم ويثير الفتنة بينهم، ويقوي أواصر العداوة والبغضاء، وكل ذلك لا يصح بحال، بل ديننا على عكسه تماما، فما الذي جعلنا لا نرى من سنته إلا (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ولا نقرأ من سور القرآن إلا (براءة) كيف غدونا لا نرى مجتمعنا إلا منافقا أثيما، أو علمانيا خبيثا، أو ليبراليا فاسقا، أو مبتدعا ضالا، أو جاهلا مركبا، أو طويلب علم مفتون، أو داعية يسعى وراء الشهرة، أو عالم سلطان، الخ تلك التصنيفات التي لو تتبعتها لما ترددت أن ترى الجنة فارغة إلا من بقايا أناس احتكروها باسمهم، وظنوها لهم وحدهم. فيا أحبتي الكرام خذوا سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فاقرؤوها، وانظروا في سيرته وتأملوها ستجدون فيها الرحمة، والرفق، والأمل، وفتح باب الرجاء للناس حتى لا ييأسوا ولا يقنطوا، وليتمكنوا من العودة بيسر إذا ما جنح بهم طريق الغواية، أو تردى أحدهم في هاوية الضلال، فلتكن لكم به أسوة، وليكن لكم قدوة، فلن يعيد كفة الإسلام إلى الرجحان على طغيان الإلحاد والكفر والعناد إلا أن نكون مثله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الموصوف بقوله (بالمؤمنين رءوف رحيم) وبقوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).