إن مكانة الشيء إنما تكون من ذاته أو بما اتصف به من كمال وجمال أو بما يحيط به أو يجاوره أو ما ورد عنه. وهكذا كانت المدينةالمنورة، فقد اجتمع لها كل ذلك وحسبنا في مكانتها وخصائصها العديد من الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكفي أن نذكر من القلادة ما أحاط بالعنق، فهي حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرض جهرته، وقبة الإسلام، ومأرز الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبوأ الحلال والحرام»، وهي المدينة التي شهدت أول ميثاق تعايش وحوار على وجه الأرض، حيث وقع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مهاجره ما سمي بوثيقة المدينة بين طوائفها وأعراقها المختلفة التي تعتبر أول دستور مكتوب لدولة ناشئة في العالم لتوافر أركان وخصائص وعناصر الدساتير فيه. لقد انبثقت الثقافة الإسلامية من طيبة الطيبة وتأصلت مصادرها قرآناً وسنة فوق ثراها، وتأسس المجتمع المدني على بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعه، وفق المنهج الإسلامي الشامل، فجاء إثر ذلك على جميع نواحي الثقافة، الدينية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية، فقد حرص عليه الصلاة والسلام على نشر العلم، ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم اللغة العبرية، كما جعل - عليه الصلاة والسلام - فدية الأسير المتعلم من الكفار مقابل فك أسره هو أن يقوم بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، لذلك كله كانت المدينةالمنورة عاصمة الإسلام الأولى وهي منبع العلم ومنها شع النور إلى باقي المدن، لذلك كان يقصدها كثيرون لأخذ العلم عن أهلها. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقطع ذلك النشاط العلمي الثقافي في المدينة، بل توسع وازداد في المدينة وخارجها خاصة مع ازدياد أعداد من هاجر إلى المدينة من المسلمين من شتى أنحاء الجزيرة ليستقر بها فهي لا تزال عاصمة الإسلام الأولى حتى ذلك الحين، وبعد خروج الصحابة - رضي الله عنهم - في الفتوحات الإسلامية لنشر الإسلام وإبلاغ سماحته إلى أرجاء العالم، واستقرت أعداد منهم في البلاد المفتوحة، ونقلوا نسخة مصغرة عن ذلك النشاط الثقافي في المدينة إلى تلك البلدان، وصارت مجالسهم وحلقهم منارات علم، ومعاهد يزورها طلاب الحديث النبوي والثقافة الإسلامية. وخلال عهود الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، عليهم رضوان الله أجمعين، شهدت المدينةالمنورة تفسير علماء الصحابة للقرآن الكريم، وهو التأصيل الأولي لعلم التفسير، ورويت السنة النبوية على يد الصحابة، وبدأ التأسيس لكثير من العلوم الإسلامية، كعلم القراءات والفقه والسير، وباتت المدينة المقصد الأول لطلاب العلم من شتى أرجاء الدولة الإسلامية، التي بلغت في مداها الشرق والغرب، وكان حلم كل طالب علم أن يسافر إلى المدينة، عاصمة الدولة الإسلامية، ليدرك البقية الباقية من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة ليأخذ عنهم مباشرة ومن دون واسطة، فبرز في المدينة نشاط علمي منقطع النظير، خاصة في المسجد النبوي الذي اكتظ بحلقات العلم في شتى الفنون والعلوم، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يجلسون لرواية الحديث والإفتاء والقضاء، حيث استفاد من عملهم الآلاف، وصارت سواري المسجد النبوي مواقع للقراء والمحدثين والفقهاء، وغيرهم من العلماء، يتحلق حول كل منهم مجموعة من الشغوفين بالعلم يسمعون، ويكتبون ويسألون ويجابون، يقصدها العلماء والمتعلمون من المدينة أولاً، ومن كل قطر إسلامي، فقلما تقرأ سيرة عالم نابه ولا تجد فيها أنه شد الرجال إلى المدينة، وجلس في مسجدها وأخذ عن علمائها. وفي عصرنا الحاضر فإن للمدينة المنورة دوراً كبيراً في نشر الثقافة الإسلامية برعاية كريمة من ولاة الأمر، فقد تأسست فيها الجامعة الإسلامية ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ومركز السنة والسيرة، وجامعة طيبة، وتزخر المدينة بكثير من المدارس التي لا يكاد يخلو منها شارع، ولايزال المسجد النبوي يواصل عطاءه العلمي والثقافي إذ يضم عشرات الحلقات العلمية لعلماء كبار، وعدداً من الحلقات الموسمية للحجاج والزوار بمختلف اللغات، إضافة إلى مكاتب التوعية والإرشاد والإفتاء المنتشرة في جنبات المسجد وفي المنطقة المحيطة به، وفي مواقع معالم المدينةالمنورة التاريخية، أقول لم تقدم مدينة على وجه البسيطة ما قدمته طيبة، مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للثقافة الإسلامية وللإسلام بعامة، ويكفي أنها كانت مأوى النبي وصحبه، وملاذ الدعوة الأولى، في ربوعها نزل الوحي وهشدت سيرة وأيام النبي والخلفاء الأربعة من بعده، وفي اختيار مدينة رسول الله عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام أمر غير مستغرب، بل عودة الشيء إلى مكانه. وإن جاء هذا الاختيار متأخراً إلا أنه لاقى اهتماماً كبيراً من ولاة الأمر لتظهر المدينة في حلة ثقافية رائعة، تبرز سماتها وخصائصها في القديم والحديث، فقد دشن ولي العهد أمير الثقافة والتاريخ صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - فعاليات هذا الاحتفال، الذي ستشهد أكثر من 400 فعالية من الأنشطة والبامج الثقافية العلمية مشتملة على مؤتمرات وندوات ومحاضرات ومسابقات تبرز من خلالها المكانة الثقافية والحضارية للمدينة المنورة، وإضفاء وهج ثقافي وعلمي يليق بموقع ومكانة المدينة النبوية، في أكثر من 30 موقعاً بالمدينةالمنورة. وتضم الفعاليات معرضين أحدهما بعنوان محمد رسول الله، وسيكون على مقربة من المسجد النبوي الشريف، يتناول السيرة العطرة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فيما يتناول المعرض الآخر تاريخ المدينةالمنورة إضافة لعرض فيلم وثقائقي بعنوان «المدينةالمنورة عاصمة الثقافة الإسلامية»، وندوة بعنوان «كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم.. مع الطفولة والمراهقة والنضج»، وأخرى بعنوان «شبابنا الملم والتطلعات» إلى جانب المتحف التاريخي للتعليم بالمدينةالمنورة وافتتاح دار القلم التاريخي للخط العربي. ولعل من حسن الطالع أن يأتي هذا العرس الثقافي لهذه المدينة الحالمة الوادعة، في أحضان التاريخ والمجد مع بداية تولي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان إمارة منطقة المدينةالمنورة، الذي بذل ويبذل جهداً كبيراً في سبيل تحقيق هذه الفعاليات لأهدافها وغاياتها وإخراجها بالصورة التي تليق بمكانة المدينةالمنورة، ليكمل مسيرة من سبقه من أمراء هذه المنطقة الغالية على كل مسلم، بشكل عام، وعلى أبناء هذا الوطن بصفة خاصة. فجزى الله الجميع خير الجزاء على ما يبذلونه لإظهار هذا الحدث بما يليق بهذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله ورعاه وأمده بالصحة والعافية وطول العمر الذي تشهد المدينةالمنورة في عهده أعظم توسعة للمسجد النبوي الشريف على مر العصور. * وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد