ليس ثمة مؤشرات في السماء تدل على نزول المطر، أو جريان السيل، فلا غيوم، ولا أجواء ماطرة، ولا رعد قريباً.. على أنه لم يلبث أن سرى بارق على قمم الجبال البعيدة، كان ذلك البارق كافياً ل(المولش) بأن يضع المسحاة على عاتقة وينطلق صوب الزهب (الحقل) كان المولش - وهو الرجل الذي يرحب بقدوم السيل بصوت عذب شجي-، يشم رائحة الخبان (السيل) من مسافة بعيدة، ويعرف ما يسمى (المخال) وهو البرق الذي يُرى على سفوح الجبال، ومن ثم تنزل الأمطار ليصل السيل، ارتقى المولش زبيراً مرتفعاً وصدح بصوته العذب الشجي (السيل والخير جانا من ربنا مولانا) كان ذلك كافيا لأن ينطلق أهل القرية جميعا صوب أرضهم كل معه مسحاته ليشق طريق السيل إلى أرضه. كانت ترانيم المولش رائعة شجية خاصة عندما تمتلئ الاراضي بمياه السيل العذبة على ضوء القمر عند ذلك تزداد ترانمية حلاوة وطلاوة. من ترنيمة المولش كانت تبتدي حياة مفعمة بالأمل، حرث الأرض وزراعتها وحصد المحصود والبيع والشراء.. لم يلبث أن تغير الوضع على المولش أخذت المناطق حظها من التنمية، خرج أهل جازان تفرقوا في البلدان، سعيا وراء لقمة العيش فكسدت بضاعة المولش لم يعد أحد يحضر السيل، ولا يهتم بأمور الزراعة، بل انه إذا زرع الحب لم يجد من يحصده. وذات مساء وعلى ضوء القمر وحينما امتلأت الأراضي بالسيل ترنم المولش وحيدا (ألا من يخلي ديرته جيزان،وذا مسافر وذا التذكرة بيده وإذا حطوا عفشه على الميزان ألا من يخلي ديرته جيزان) خلا بنفسه على ضوء القمر، أين جشاش وأين وأين مصعود وأين قهار؟ بل أين أولادي، درسوا وتركوا جازان لم يبق معي إلا هذا الابن يا ليته لا يتركني حتما سأجد له وظيفة حتى يكون إلى جانبي.. توكأ على عصاه اتجه إلى دائرة كبرى.. لم يعطه توصية شفيع غير متزر أو ذي جاه ومال: وقف على باب تلك الدائرة وجد مديرها قد أتى بوكيله ومدير مكتبه ومدير شؤون ماليته وسكرتاريته جميعا من الديار البعيدة، وأسكنهم بربوة على ضفاف البحر، بينما قربيه الذي تبوأ مركزا مرموقا في إدارته يدير ثلاث شركات استثمارية أشاح ببصره يمنة ويسرة فإذا الموظفون في هذه الدائرة جلهم من هناك لم يفلح ذكاء المدير في حذف الألقاب الأخيرة من أسمائهم على الأبواب، كما لم يفلح في طمس سحناتهم أو لهجاتهم، كما لم يفلح المدير في وضع وكلاء آخرين وضعهم كواجهة وسحبهم الصلاحية ،لتبقى في يده ويد وكيله. قال المولش: أنا أريد عدالة اجتماعية إذا كانت المقاييس لا تنطبق إلا على هؤلاء فأين يكون ابني..؟لابد أن تظلنا شجرة التنمية جميعا، ذهب إلى بعض أعضاء مجلس الإدارة من جماعته لم يجد عندهم حلاً فقد اشترى هذا المدير سكوتهم بأن عين لكل واحد منهم أحد أقاربه في دائرته وأحاط نفسه بهالة إعلامية هائلة قولبت الحقائق.. تمتم المولش وقال: سينقلب السحر على الساحر والشعر على الشاعر. ذهل المولش كل يظلل بشجرته على جماعته، ولم يستفد أهالي جازان من التنمية غير أنهم باعوا أرضهم للمستثمرين ليبقوا صفر اليدين. ودع المولش ابنه الأصغر الذي سافر في طلب الرزق.. ركب سيارة أجرة وعاد إلى قريته. سحب قعادته (كرسي من الحبال) وشرب شربة ماء من شربة صغيرة حوله، وفي آخر تلك الليلة ترنم المولش على سريره ترنيمته الأخيرة (ألا خلوا ديرتكم جيزان) وتمتم قائلاً: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) في الوقت الذي كان أكثر من 700 ألف مشاهد في اليوتيوب قد شاهدوا أنشودة حفيده: (شأصلح سيارتي سأسافر جيزان ومامعاية ولا ريال). * جامعة جازان