يحتفل العالم هذه الأيام بيوم المرأة العالمي وهي مناسبة القصد منها النظر إلى وضع المرأة في المجتمعات المختلفة ومحاولة النهوض بواقعها إيمانا بأهمية دورها في رقي الأمم. ومع أني لا أحب هذه المناسبات عموماً لعدم فعاليتها مقارنة بما يصاحبها من دعاية لا تدفع بالضرورة إلى تحقيق الأهداف المرجوة منها. لكني وبدافع من إيماني العميق بأهمية السعي الى النهوض بالمرأة فوضعها في جميع أنحاء العالم بحاجة ماسة إلى المراجعة، حيث لا زلنا نسمع كثيراً عن حالات القسر والعنف الذي يوجه تجاه النساء في مختلف المجتمعات، ولا زالت المرأة عالميا تعاني من نقص في الخدمات التعليمية والصحية، مما ينعكس سلبيا على مستوى تلك المجتمعات من حيث التقدم والبناء. لكن الأهم من ذلك هو واقع المرأة العربية الذي هو أدنى حتى من المستويات العالمية المتدنية والذي يعتبر من أهم عوامل التخلف في مجتمعاتنا، ولذلك وجب استغلال مثل هذه المناسبة لدراسة وضع المرأة العربية وصولاً إلى السبل الكفيلة بتفعيل دورها الحيوي بوصفه الخطوة الأهم في سبيل المشروع التنموي الكبير الذي نسعى من خلاله جاهدين للنهوض بالأمة. ولعل من أهم لوازم مشروع النهضة بالمرأة إيجاد المثل والقدوات التي تضع أمامنا النماذج الصالحة من النساء اللواتي وفقهن الله للقيام بأعمال فريدة ومساهمات خاصة تركت بصمات واضحة على الناس من حولهن ومن بعدهن، ولعل من أكبر العقبات التي وضعت أمام المرأة الكم الهائل من النماذج المنحرفة من النساء اللواتي اخترن سبل الترفيه والترويح وإثارة الغرائز، مما ساهم في تعطيل قيام المرأة بدورها المطلوب في بناء المجتمع، ذلك أننا نريد المرأة الواعية المثقفة التي تربي وتعلم مثل عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-، ونحلم بالمرأة التي تثري الحياة الإقتصادية بلمستها الخاصة مثل أم المؤمنين خديجة-رضي الله عنها-، كما واننا نتطلع الى المرأة التي تكون ضمير المجتمع فتقوم بدورها في النصح والإرشاد وبيان الرأي في عوالم السياسة والمجتمع مثل أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-. وقد يقول قائل وأين نساؤنا من أولئك النساء العظيمات اللواتي كان لهن قدم السبق مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك فقد آثرت اليوم أن أضرب مثلاً من أمرأة من أهل الصفة وهم مجموعة من فقراء المسلمين الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحقوا به إلى المدينة ولم يكن لهم أقارب أو منازل يأوون إليها فاتخذوا مكاناً في مسجد الرسول يسمى «الصفة» وهو موضع مظلّل في آخر المسجد النبوي بالمدينةالمنورة، فعرفوا بأهل الصفة. ولم يكن ما يجود به أهل المدينة يكفي حاجة المهاجرين كلهم؛ فلذلك عانوا من الجوع وفقد الملبس والمأوى. حتى أنهم ربّما جاعوا حتى يغشى عليهم من شدة الجوع. قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنت من أهل الصفة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليُغشى عليّ فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع. وقال أيضًا: رأيت ثلاثين رجلاً من أهل الصفة يصلّون خلف رسول الله ليس عليهم أردية، سوى الأزر التي كانوا يصلون بها. وكانوا، مع شدة حاجتهم، أعِفة لا يسألون الناس شيئا ولذلك جاء وصفهم في القرآن الكريم «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (البقرة:273). هؤلاء لم يكونوا من الفقراء الذين استغلوا فقرهم فجعلوه وسيلة للتكسب، أو أن فقرهم دخل في عقولهم فأدى بأرواحهم الى اليأس والانطواء، بل كانوا قادة وصناع حياة بكل ما تعنيه الكلمة لأنهم لم يروا في الفقر مانعاً من القرب من رسول الله واستقاء العلم من معينه على الرغم من شدة فقرهم وحاجتهم، ومع ذلك فقد برز العديد من أصحاب الصفة مثل أبوهريرة الذي نذر حياته لحفظ حديث رسول الله وسنته، وكذلك أبوذر الغفاري الذي كان مثالاً في الزهد بين أصحاب النبي ومن رواة حديثه، ثم هناك عمّار بن ياسر ابن أول شهيدين في الإسلام، وكان منهم بلال بن رباح مؤذن رسول الله ومن أئمة الصحابة الذي وصفه عمر بن الخطاب بأنه سيده، وكذلك سلمان الفارسي الذي تشرف بوصف رسول الله بأنه من أهل البيت، وصُهيب الرومي الذي كان من كبار التجار في مكة لكن قريش خيرته بين الهجرة وترك المال، أو البقاء مع المال فاختار ترك المال واللحاق بالمصطفى فوصل به الحال الى ما وصل إليه من الفقر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. كان الرسول صلى الله عليه ويسلم يحب أصحاب الصفة حباً شديداً ويسميهم أصحابه، فقد أخرج ابن سعد عن أبي هريرة قوله: «خرج رسول الله ليلة فقال: «ادعُ لي أصحابي» يعني أهل الصفة، فجعلت أنبِّههم رجلاً رجلاً فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله فاستأذنَّا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده وقال: (خذوا باسم الله) فأكلنا منها ما شئنا، قال: ثم رفعنا أيدينا، وقد قال رسول الله حين وُضعت الصحفة (والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه)». ووصف الرسول لهم بأصحابه أعلى درجات التشريف والتكريم وذلك ليس بسبب فقرهم، كما قد يتبادر الى الذهن، ولكن بسبب علو همتهم وعظيم تضحيتهم وأهمية عطائهم ودورهم في بناء المجتمع الجديد. ليس الهدف من حديثنا ذكر سيرة أصحاب الصفة جميعا، وإن كانت قصة كل واحد منهم تستحق السرد لما فيها من تضحيات قدموها في سبيل ترسيخ دعائم الرسالة الفتية فجزاهم الله عنا خير الجزاء. ولكنني أحببت أن أذكر اليوم قصة امرأة عجوز منهم يقال لها «أم محجن»، وهي المرأة التي آثرت تلبية نداء الرسول ودعوته لأتباعه بالهجرة الى المدينة والعيش بالقرب منه على الرغم من كبر سنها وضعف بدنها وحالة الفقر التي نزلت بها. ومع كل هذه التضحيات إلا أنها لم تنس أن المطلوب منها ربما فوق ذلك، وأن عليها أن تقدم شيئاً ولو كان صغيراً ليكون مساهمة منها في العطاء، ولكن ما عساها تقدم وهي التي لا تجد ما يسد رمقها أو يستر عليها. فكرت فوجدت أن هناك ثغرة بإمكانها أن تسدها ألا وهي تنظيف مسجد رسول الله فسارعت الى القيام بذلك الواجب على الرغم من أن أحداً لم يطلب منها ذلك، كما وأنها واصلت عملها على الرغم من أنه لم يحظ بالملاحظة أو الذكر من أحد، لكن ذلك لم يفت في عزيمتها. عمل بلا شك صغير جداً مقارنة بما يفعله الآخرون مثل مقارعة الأعداء أو إنفاق الأموال الكثيرة في سبيل الله، ولكنه مع ذلك عمل مهم لا يمكن الإستغناء عنه. إن الأمم لا تبنى بالمشاريع الكبيرة فحسب بل لا بد من توفر الأفراد المبادرين الذين يقومون بالأعمال الصغيرة التي تسد الثغرات التي تتركها المشاريع الكبيرة، مثل ذلك مثل المؤسسات التي لا تصنعها جهود المديرين فقط، بل جهود جميع العاملين صغيرهم وكبيرهم. كما وأن هذا العمل البسيط في مظهره العظيم في جوهره يدل دلالات كبيرة على شخصية المرأة، ومنها أنها امرأة مبادرة لا تنتظر أن يصدر لها الأمر من أحد لتقوم بعمل الواجب، وإنما تبادر إلى الفعل. كما وأنها من النوع الذي لا يشترط المكافأة على العمل، أو حتى الثناء وإنما هي تفعل الخير مدفوعة بقناعتها الداخلية به والنظر إلى ما عند الله وليس إلى ما يقدمه الناس. فجميع الروايات التي تذكر قصتها تدل على أن الصحابة لم ينتبهوا لعملها، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يشعرون به وبأهميته على الإطلاق. ولكن كانت هناك عين رسول الله التي ترقب كل صغيرة وكبيرة ولا يفوتها شيء، وفي هذا درس كبير لكل مسؤول أو رب بيت، وذلكم هو الانتباه إلى ما يجري حوله واستغلال كل فرصة لترسيخ قيم معينة في أذهان الأهل أو الأتباع، ذلك أن التربية المنهجية هي التي تأتي من واقع الأحداث وليس من بين صحائف الكتب. وكان من عادة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بعد أن يفرغ من صلاة الفجر أن يسأل عن الصحابة، فإذا قيل له بأن أحدا منهم منعه المرض من الصلاة معه، ذهب بعد الصلاة إليه وزاره ودعا له بالشفاء. وفي ذات يوم افتقد أم محجن وسأل عنها فقيل بأنها توفيت بالأمس ودفنت، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تقيم المسجد: « فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت. فقال: أفلا كنتم آذنتموني. فكأنهم صَغَّرُوا أمرها؛ فقال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها، فصلى عليها.» ياله من تكريم أن يذهب الرسول الكريم صلوات الله وسلامه إلى قبر إنسان فيصلي عليه. ومن تكريم الله لهذه المرأة أن خلد ذكرها لأن حادثة صلاة الرسول على قبرها تعتبر سابقة في مجال الفقه إذ إنها المرة الأولى التي يصلي فيها الرسول صلوات الله وسلامه عليه على قبر بدلاً من الصلاة على الجنازة وبذلك تكون الدليل على جواز الصلاة على القبور لمن فاتته الصلاة على الجنازة. كما وأن في فعل الرسول صلوات الله وسلامه عليه دلالة واضحة على اهتمامه بتلك المرأة وتقديره للروح الإيجابية التي تحلت بها، وفي ذلك أعظم الدروس لنا جميعا للتحلي بمثل هذه الروح ومحاولة سد الثغرات التي نواجهها في حياتنا اليومية. * سفير العراق في المملكة