استمعتُ إلى مداخلة من سيدة غاضبة في أحد البرامج التلفازية، تطالب فيها بجلوس جميع النساء في المنزل على أن تتكفل الدولة بدفع راتب عشرة آلاف ريال لكل سيدة لقاء بطالتها وتعطيلها. وهنا لن أناقش هذا الطرح الهش والخيالي، ولن أفند الأقوال المتضاربة، على الرغم من أنها نصبت نفسها لتتكلم بلسان بنات الوطن جميعهن، ولا أدري من الذي منحها هذه الصلاحية؟ ولكن أصحاب هذا النوع من الطرح عادة يكونون أسرى الطرح (الرغبوي) الذي يرى العالم كما يريد. ما أود مناقشته هنا هو المواضع التي تقبع فيها المرأة داخل هذا النوع من الفكر (المتطرف)، والصورة الذهنية التي تحيطها. لنجد أنه على المستوى الاقتصادي تقول الغضبى بأنه يجب على الدولة أن تعيد كل نساء الوطن إلى المنزل وتدفع لهن راتبا شهريا، وهو الأمنية التقليدية التي طالما راودت (الصحويين) على مدى ثلاثين عاما (الفترة التي اكتسحوا فيها الساحة)، ولكن الواقع ومتطلبات عجلة التنمية كانت تخذلهم دوما، فالبنات من سيدرسهن في المدارس؟ ومن سيعالجهن في المستشفيات؟ ومن سيشرف على رسائلهن الأكاديمية..الخ.. إذاً لابد من وجود المخترع الجديد الذي اسمه (النساء) وبما أن نساء الوطن في المنزل يرفلن في الدمقس والحرير بعد أن تصلهن الرواتب (في نزيف اقتصادي لم يشهده اقتصاد دولة من قبل) فلا بأس من أن نجلب نساء الخارج ليقمن بالمهمة، ونساء الخارج لابأس من أن يغادرن منازلهن (في انتقاص مبطن ضدهن حتى لو كن مسلمات)، ولابأس أن يحولن مقدرات وثروات الوطن إلى الخارج، طالما أن الحلم الطوباوي الساذج سائر في طريقه، وتظل قدرات ومواهب ومشاركة نساء الوطن غائبة ومعطلة في حالة ضمان اجتماعي أبدي وبطالة خمس نجوم.. اجتماعياً تشكو الغضبى من ظلم الضمان الاجتماعي، وشح المرتبات لمنسوبات النظام، وهي لم يستوقفها سؤال صغير ويجعلها تتساءل لماذا؟ لماذا هذا الجور؟ لم تستطع أن تفكك القضية إلى أعماقها وتتبع جذورها وصولا إلى الأعراف والتقاليد المتربصة بالنساء. فهي لم تتساءل أين كانت المرأة حينما وضعت قوائم رواتب الضمان؟ أين كانت المرأة حينما قننت المساعدات التي تقدم لها؟ أين كانت المرأة عندما حرمت النساء من الحصول على راتبها التقاعدي بينما زوجها يناله كاملا؟ أين كانت عندما سنت كل هذه القوانين؟ كانت غائبة أو تحديدا مغيبة مقصاة ومطرودة عن مواضع صناعة القرار، يقضون بالأمر عنها وهي غافلة، لأن هناك ثقافة اختارت لها أماكنها وتموضعاتها تطوقها بالدونية والانتقاص من عقلها وقدرتها على المساهمة في تقرير مصيرها. وثقافة ترى أن تصلبها أبد الدهر كيدٍ سفلى تستجدي الهبات من دولة أو قريب أو زوج، ثقافة تسيّسها وتعسفها وتطوعها كي تصبح سلسة سهلة الانقياد بلا وعي أو استقلالية بالشخصية، وتصبح قابلة لأن تكون زوجة مسيار، أو وناسة، ولم تميز أن غياب المرأة عن الفضاء العام وعلى مستوى القرار، هو تكريس الصورة الذهنية ضدها كرمز غرائزي مطوق بالخطيئة، وليس مخلوقة مكرمة في البحر والبر تود أن تسعى في شؤونها وتدب في أمور حياتها بتمام كرامتها وإنسانيتها، دون أن تنتظر يداً عليا تتصدق عليها. لم تستطع الغضبى أن تربط بين تغييب النساء، وتوجه مضمر يؤكد نقصانهن وقصورهن ومحدودية قدراتهن.. تلك القدرات النسوية الأمومية التي صنعت التاريخ والتي لطالما أنشأت شعوبا وأجيالا، فكيف نكف يدها عن تقرير شأنها الخاص، والمشاركة في الشأن العام؟ ولم يدر بخلد الغضبى أن الصورة النمطية المقصية المغيّبة للمرأة هي التي تجعلها مستباحة لجميع أنواع العنف الجسدي واللفظي لدى غائبي المروءة، وتجعل البعض يستخف بها في المحاكم بين قضايا مؤجلة وحقوق مبددة، ويجعل أيضا راتبها في الضمان الاجتماعي شحيحاً مقتراً. الغضبى لاتعرف أن هذا النوع من الثقافة الإقصائية هو الذي يجعل حتى الفتى الصغير ينتقص من أخته، فهو ثقافة تكرس كل ما هو دوني ضد المرأة، فالكلام الثابت كلام رجل، والثرثرة الجوفاء كلام نساء! واليافع المتفوق هو تربية رجال، بينما الصبي الكسول الرقيع هو تربية نساء..! نماذج كثيرة لامجال لتقصّيها وحصرها في هذا المقال..لا سيما أنها هي الثقافة نفسها التي صنعت هذا الطرح الغاضب (لست البيت) التي تود أن تعيد جميع النساء إلى المنزل مقابل راتب بطالة خمس نجوم..