«الحداثة» التي نكتب عنها ونتجادل حولها ونختصم فيها غير تلك التي يكتب عنها ميشيل ريمون وأمثاله. كتاباتنا وأقاويلنا لا تزال تعاين الظواهر وتطرح القضايا ضمن أفق معرفي مشبع بالتصورات التقليدية عن المكان والزمن والإنسان. فمركز الكون يقع خارجه، والإنسان يقع في مركز العالم الدنيوي، والإنسان المسلم هو الوحيد الذي يستغرق معاني الإنسانية لأن غيره منحرف أو ضال لا يعقل ولا يعيش كما يليق به أن يعقل ويعيش! الصور المتخيلة للعالم وللذات فيه تغطي على الصور الواقعية للشيء أو للكائن، تماماً كما تغطي الحقائق الكبرى المطلقة على الحقائق الصغيرة التي تقبل المعاينة والوصف والتحليل والتعليل. الثقافات التقليدية في آسيا وافريقيا، بل وحتى في أوروبا وأمريكا، تحضر على مسرح الحياة اليومية «مع» الثقافات الحديثة. أما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فهي تعمل جاهدة أو «مجاهدة» لاحتلال المسرح كله والتحكم في مختلف تفاصيل المشهد وسندها الوحيد هو «المشروعية». هكذا يكون من الطبيعي والمنطقي تماماً أن تتحول ثقافاتنا التقليدية ذاتها إلى أهم عائق لاندماجنا في الآفاق العلمية والفكرية والجمالية الراهنة ومن ثم اختبار مدى قدراتنا على المشاركة الفعالة في تسيير العالم وإدارة علاقاته من دون القفز دفعة واحدة إلى موقع الريادة والقيادة. لقد كان الجبرتي والنخب الدينية الأزهرية أكثر عفوية وسوية من نخبنا التقليدية اليوم وهم يعترفون ان علوم الغزاة الفرنسيين أعقد من أن تتسع لها عقولهم لأنهم كانوا يقررون واقعاً معاشاً لا غير، أما اللاحقون بهم فقد تمكنوا من كسب بعض المعارف الحديثة ومن التشبع بالكثير الكثير من المعارف التقليدية، لكن أحداً منهم لا يجرؤ على الاعتراف بعدم القدرة على الاستيعاب الجدي للعلم الحديث أو للفكر الفلسفي الحديث أو للفن الحديث، وفي مقدمته فن الضوء وصوره التي تغرق الحياة الراهنة وتكاد تحول الواقع ذاته إلى نسخ أو مسوخ لها. الفقر المعرفي يقضي بالضرورة إلى ضيق الأفق الفكري، وهذه الوضعية الذهنية العاطفية تفضي ولابد إلى سوء الظن وسوء القول والعمل لأن العالم الحديث كله يبدو لنا جاهلية ضالة ومعادية.. في حالة كهذه لابد أن تشتغل آلية التفكير الأكثر بساطة وفعالية بالنسبة للنخب التقليدية ومتلقيها من الأوساط الاجتماعية التي تثق فيها ثقة مفرطة نعني تحديداً آلية التوهم والحكم الحدي على الظواهر والأشياء والعلاقات. حينما أتوهم وأصدق انني أعرف كل شيء مهم عن الهنود أو عن الصينيين أو عن الغربيين، لن أتورع عن اطلاق أي حكم على معارفهم ومعتقداتهم وأخلاقياتهم، لأن الذات الواهمة هي ذاتها مرجعية الحكم. النخب الحديثة في مجتمعاتنا ليست بعيدة كل البعد عن هذه الوضعية، وإن كانت تحاول الخروج عنها وعياً منها بأنها غير سليمة وغير فعالة وغير مشروعة في عالم اليوم. فهي نادراً ما قرنت الحداثة ب «العلوم الحديثة» أو ب «الفكر الفلسفي الحديث» لأن حداثة الأدب والأقاويل المتصلة به هي أول ما طرح كقضية للجدل «طرحها توفيق الحكيم في فترة ما بين الحربين»، وحينما استعادتها بعض النخب البيروتية في الستينيات نزعت إلى اختزالها في الشعر الجديد ونقده، ومن هنا شاعت على هذه الشاكلة في بقية الفضاءات العربية تالياً. أكثر من ذلك نزعم أن منطق «المديح» كان ولا يزال هو المهيمن على ذهنيات النخب الأدبية، لأن النص الحديث عموماً هو الأكثر تعبيراً عن الفرد وتشخيصاً لوعيه المتخارج للتو عن الوعي التقليدي السائد لدى أغلبية المجتمع. منطق المديح هذا يستدعي منطق الهجاء بقدرما ينفي أو يجافي منطق التفهم والتفاهم، لأنه بوح بالمشاعر وإعلان للمواقف ودفاع عن المواقع.. مثله في هذا مثل نقيضه وقرينه. حينما قبلت المشاركة في ندوة «الحداثة بين خطابين» التي عقدت مساء الثلاثاء 16/11 بنادي جدة الأدبي الثقافي لم يكن مقصدي إقناع د. عوض القرني بشيء، أو الانتصار عليه في شيء، أو حتى تمثيل خطاب الحداثة أمام جمهور الحضور. كان هدفي الوحيد هو طرح القضية برمتها كإشكالية ثقافية بشرية دنيوية تتحمل وتتطلب مختلف الاجتهادات والآراء والمواقف، ومن دون توهم القدرة على حسم القول فيها. لا أدري إلى أي مدى نجحت في هذا المسعى. لكن الأمر الأهم بالنسبة لي من قبل ومن بعد هو اعتياد منطق الحوار الذي لا يضمن لأحد رتبة أعلى وإلا فقد معانيه ووظائفه وعدنا مجدداً إلى منطق الخصومات الذي يهدر الطاقات ويولد التوترات كأي علاقة تحتكم إلى «القوة» الرمزية أو العملية. فنحن كثيراً ما نتحاور من دون تمييز يذكر بين فنون الجدل والمناظرات والسجالات، ومن دون وعي مسبق بمشروعية التعدد في الآراء والاختلاف في المواقف، وكأن الحوار فضفضة مجالس أو صيغة جديدة لشعرية «الرد» ولتقاليد المناظرات والمفاخرات!.. الحوارية في المجال المعرفي هي آلية فعالة لانتاج المزيد من المعرفة، وهي في المجال الأدبي تشخيص جمالي لحقائق التنوع في الأصوات والخطابات حول أي قضية صغيرة أو كبيرة، وهي في المجال الاجتماعي رديف ثقافة التسامح فيما بين فئات وطبقات وجماعات لكل منها الحق في ممارسة حياتها والدفاع عن حقوقها كما ترى وتريد، وهي في المجال السياسي ديمقراطية تكفل للجميع فرصاً وحقوقاً متساوية من حيث المبدأ وفي ضوء قانون تعاقدي يقبل التعديل والتطوير باستمرار.. وهكذا هل تتسع عقولنا وصدورنا لحوارية كهذه. نأمل ذلك وينبغي أن نسعى إليه بكل ما نملك من وسائل، لأن الأمر يتعلق بحاجة لكل أحد عند كل أحد. ونخبنا الثقافية يفترض أن تكون هي الأحرص على إرساء تقاليد الحوار وصيانة أخلاقياته وتطوير أدواته وتوسيع مجالاته، لأن مكانتها في المجتمع تعلو أو تنحط بقدرما تنجح أو تفشل في تحقيق هذا الهدف. لقد ولى زمن القول المشروع الواحد والفكرة الصحيحة الواحدة والموقف السليم الواحد، ولم يعد أمامنا سوى قبول منطق التعايش بين المختلفات والمتناقضات إنه واقع غير سعيد كل السعادة، لكنه واقع عنيد يعيشه عالمنا الراهن، وهو غير «عالمنا المتخيل» بكل تأكيد!!