تشكل بعض مواقف المسافرين في أحيانٍ كثيرة سلوكاً معيناً يختلف من شخص لآخر، بحسب الطبع والنظرة إلى الأمور، فمنهم من يشبه في طبعه "قالب الثلج"، فهو قمة البرود، وهنالك المسافر الذي يشبه "الفلفل" في حرارة انفعالاته وسخطه الحاد، ومنهم من يشبه "كاميرا المراقبة" عيناه دائماً يعتريهما الفضول، ومنهم المفرط في سخطه، وفي الوقت نفسه مفرط في عاطفته، فنجد أن انفعالاته تشبه حبات "الفيشار" عندما توضع على الزيت! ولكن سبحان مغير الأحوال سرعان ما تتحول تلك الشخصية الهائجة إلى عاطفة ناعمة كذوبان الزبدة تماماً..! إنها سلوكيات وأمزجة متباينة في المعاني والمفاهيم، وفي مجملها تكشف عن حقائق غريبة بعض الشيء تتكرر في السفر بشكل أكبر نتيجة البقاء لفترات طويلة، وفي مساحة صغيرة مع أناس غرباء لا يعرف بعضهم بعضاً، وسوف استشهد بموقفين مؤثرين فيهما رسالة واضحة حول طرق التفكير بصور مختلفة! الموقف الأول، حدث لمواطن سعودي تعرضت زوجته للإصابة بمرض عضال "السرطان"، كفانا الله وإياكم شر هذا المرض، مما استلزم منه السفر إلى الخارج برفقة زوجته المريضة وابنته الصغيرة، وأثناء تردده على المستشفى في الولاياتالمتحدةالأمريكية وجد الرجل تعاطفاً كبيراً من جيرانه، إذ قاموا باستضافة ابنته في الفترات التي لا يوجد فيها بسبب ظروفه التي تحتم عليه البقاء بالمستشفى لمرافقة زوجته، بعد أشهر عدة توفيت زوجته، ولم يكن هناك بُدٌ من العودة إلى الوطن، نقلت الزوجة المتوفاة في تابوت برفقة الزوج والابنة بالطائرة نفسها، ولكن الحزن لم يدرك هذه الأخيرة فهي منذ جلوس والدها على مقعد الطائرة تبكي وتطلب الذهاب إلى والدتها، وبعد ساعات تحول البكاء إلى ضجيج، استنكر أحد المسافرين سلوك الوالد ووبخه على عدم اهتمامه براحة الآخرين، وطلب منه إرسال الطفلة إلى أمها، رد الأب والأسى يكسو ملامحه أن زوجته ترقد في تابوت مع أمتعة الشحن أسفل الطائرة، وهذا ما لا يستطيع أن يشرحه لطفلة لم تتجاوز الأعوام الخمسة، صدم المسافر بما سمع وانتابه شعور حاد بتأنيب الضمير، مما جعله لا يحرك ساكناً لبرهة، وأخيراً تجاوز صدمته واعتذر إلى الأب لعدم معرفته بحقيقة الأمر، وعرض عليه خدماته في حالة احتاج إلى أي مساعدة، وظل مجاوراً مسانداً له طوال فترة الرحلة، إلى أن وصلوا سالمين إلى أرض الوطن. هذا الموقف ذكرني بتجربة مماثلة للكاتب "إستيفن كوفي" في كتابه "العادات السبع الأكثر فاعلية"، ومضمونها باختصار أنه ركب قطار الأنفاق في مدينة نيويورك، وكان الركاب جالسين والجو مفعماً بالهدوء، وفجأة صعد رجل يصحبه أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وشقاوتهم عربة القطار، جلس الرجل إلى جانبه وأغلق عينيه غافلاً عما يبدو من الموقف.. وكان الأمر مثيراً للإزعاج، وعلى رغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواره من دون أن يحرك ساكناً، وبقدر غير معتاد من الصبر وضبط النفس، التفت إلى الرجل قائلاً: إن أطفالك يا سيدي يسببون إزعاجاً للكثير من الناس، فتح الرجل عينيه وكأنه يعي الموقف للمرة الأولى، وقال في لطف: إنك على حق.. يبدو أنه يتعين عليّ أن أفعل شيئاً إزاء هذا الأمر.. ولكن المعذرة أنني منذ 24 ساعة لم أذق طعم الراحة أو النوم، وإنني عاجز عن التفكير، وأظن أن الأطفال لا يدرون كيف يواجهون الموقف أيضاً.. لأننا قبل قليل قدمنا من المستشفى، إذ لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة.. عندها توقف الكاتب قليلاً وقال لنفسه: حدث تغير في الصورة الذهنية، لقد رأيت الأمور مختلفة فجأة، ونظراً لأنني فكرت بصورة مختلفة، وتصرفت بصورة مختلفة، فكان رد الفعل أيضاً مختلفاً، فسرعان ما تحول الغضب والانفعال إلى هدوء، فتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم من دون قيود.. وبدأت بمواساة وعرض المساعدة له، ويخلص الكاتب إلى أنه إذا رغبنا في إجراء تغيرات نسبية في حياتنا فيمكننا التركيز بطريقة ملائمة على توجهاتنا وسلوكياتنا، أما إذا رغبنا في إجراء تغير جوهري فإنه يتعين أن تنصب جهودنا على تصوراتنا الذهنية الأساسية. وقفة: نحن مفرطون في أحزاننا وفي أفراحنا، حتى في سخطنا وعاطفتنا..! فأين نحن من الوسطية والاعتدال؟! أخيراً: في السفر لا تجعل صغائر الأمور، أو سلبيات الآخرين، تفرض عليك سلوكاً تندم عليه أو تعكر صفو رحلتك.. فكن "جميلاً ترى الوجود جميلاً".