أشرت في المقال السابق إلى نوع من أنواع الإدارة التعسفية بعنوان: «تعال ب رجلك» وهي شكل من أشكال الإدارة البيروقراطية السلبية التي تلغي أي وسيلة من وسائل الاتصال لمراجعة المعاملات حيث يرى الموظف أن من يستخدم الهاتف أو الفاكس أو الانترنت هو نوع من الإهانة الشخصية لشخص الموظف ومساس لكرامته الشخصية وعادة ما يرفق ذلك عبارات: «من تكون، ومن أنت، تعال راجع وإلا يدينك مخضبة بالحنا والنقوش، وأيضاً لابس برجليك خلاخل»، وغيرها من العبارات التي حولت التعقيب على المعاملة نوعاً من القضايا الشخصية ما بين الموظف وبين صاحب المعاملة. أشعر بأن البناء الإداري سينهد وتسقط هياكله إذا استمررنا بتلك الروح غير المبالية من الموظف والمسؤول تجاه إنجاز المعاملة والنظرة العدائية ضد المراجعين لذا لابد من جراحة إدارية لمعالجة العمل الإداري عندنا والذي ترهّل وتضخّم عبر حشر الهيكل الإداري لقطاع الخدمات بالمناصب التشريفية والتي يقوم بعضها على إرضاء بعض الأشخاص وتنفيع الأهل والأقرباء والأصدقاء وأبناء القرية رفقاء الطفولة.. تضخمت قطاعات الخدمات بمناصب وإدارات ومهام وظيفية لا يوجد توصيف لها في وزارة الخدمة المدنية والنتيجة أن ثمناً غالياً يدفعه المراجع من أعصابه ودمه ووقته دون جدوى... إذا نحن استحدثنا منصب نائب الوزير فما الجدوى إذن من جيش من المناصب: الوكيل والوكيل لشؤون، والوكيل المساعد . هل هي وظائف إرضائية أو تشريفية أو تنفيعية فما هو عمل وكيل الوزارة إذا كان هناك نائب للوزير .وبالمناسبة هناك أكثر من وكيل، وإذن ما هو عمل الوكيل المساعد الذي تحول إلى مراسل ما بين الوكيل «الكبير» وبين المدير العام ثم ما هو دور المدراء العموم في ظل جيش من الوكلاء ومساعديهم فتخيلوا خط سير معاملة نقطة انطلاقها الوزير ثم مدير مكتب معاليه، ثم نائب الوزير، ثم وكيل الوزارة، ثم وكيل الوزارة المساعد، ثم المدير العام، ثم مدير الإدارة، ثم مدير الشعبة، ثم الموظف المختص.. بعد هذه الممرات الالتفافية ورحلة الذهاب الشاقة بين الأروقة والدهاليز والأنفاق المظلمة تأتي رحلة العودة مبتدئة من الموظف المختص حتى تصل إلى توقيع الوزير . ألا ترون أننا أطلنا في خط السير في حين يمكن التعجيل عبر اختصار الدليل الإجرائي للمعاملة من خلال تواقيع محدودة بدلاً من الحفلة والزفة وتمرير المعاملة على جميع إدارات وأقسام الوزارة.. بلادنا مقبلة على تجارة دولية، واقتصاد محلي مرتبط مع حركة السوق العالمية وبلادنا مقبلة على تقنية وفكر تكنولوجي إذا لم نتواكب معه إدارياً فإننا لا نكتفي بالتوقف عن متابعة الشعوب الأخرى بل نعمد إلى تدمير هياكلنا الإدارية وبالتالي نقود أنفسنا إلى درجات أدنى في السلم التنافسي ليس مع الدول المتحضرة إدارياً في آسيا بل مع الدول المجاورة والتي لا تقاس باقتصادنا و مساحة وموارد بلادنا وعدد سكاننا وكثافة عدد الجامعات لدينا. نحن ندمر أنفسنا إذا أبقينا على خيار واحد في خيارات الإدارة وهي «إدارة الثقة» إن التعيينات داخل قطاعات الخدمات تقوم على خيار الثقة مستبعدين التكنوقراط وأهل الخبرة والكفاءة والمتمرسين في العمل الإداري ومن لهم سجل في إنجاز الأعمال أي أن التعيين داخل القطاعات من مديري المكاتب والوكلاء والوكلاء المساعدين - إن كان ضرورياً - ومديري العموم يقوم على معيار الثقة فقط دون النظر للكفاءة والقدرة على إدارة الأعمال.. وكأن قطاعاتنا تعيش أزمة ثقة وحرب تشكيك وأن التأهيل الوحيد هو الثقة!.. وهذا أكبر (مطب) إداري وقع به المسؤولون عندما جعلوا معيار اختيار مدير المكتب هو معيار الثقة وصلة القرابة والجذور العرقية ورابط تربة القرية.. وكأن لا يكون مديراً لمكتب المسؤول أو وكيل وزارة أو مديراً عاماً له إلا إذا كان سجله الوظيفي مطعماً برائحة القرية وفصيلة الدم وصلة القرابة.. إذا استمررنا في إبعاد أهل الخبرة والكفاءات الإدارية لأنهم لا يحملون في سجلهم معايير المناطقية فإننا لا شك نسقط حجراً حجراً من بناء الهيكل الإداري وسنورث للجيل القادم إدارة مفككة وبحراً من البيروقراطية السلبية قد لا يتعافون منه بسهولة إلا إذا قرروا نسف الفكر الإداري السابق برمته ،أو إذا نحن تنبهنا وقررنا الجراحة العاجلة وأذبنا الذاتية ورفعنا شعار الخبرة والكفاءة والتحديث الإداري المبني على المهنية الواعية والمنتجة.