يعلم المهتمون بأن كوبرنيكوس قد أحدث ثورة فكرية مزلزلة في أوربا في القرن السادس عشر بإعادة اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها مجرد كوكب تابع للشمس.. لقد أحدث باكتشافه هذا تأثيراً هائلاً في الأفكار والاهتمامات والأوضاع مع أنه كان مسبوقاً إليه بثمانية عشر قرناً فما هي الدلالة المحورية لهذا الفارق النوعي في الاستجابة ؟! علينا أن ندرك أن الريادات تكون في الغالب خارج النسق السائد لذلك فإنها مهما كانت خارقة وعظيمة كريادة ابن رشد وابن النفيس وابن الهيثم والفارابي وأمثالهم لاتكون مؤثرة تأثيراً إيجابياً إلا إذا كانت البيئة الثقافية متهيئة بالقدر الكافي لفهم محتواها وقبول هذا المحتوى والاستجابة الإيجابية الكافية لها إن كوبرنيكوس لم يكن أول من توصَّل إلى هذا الاكتشاف ففي القرن الثالث قبل الميلاد أعلن أريستارخوس بأن الشمس هي المركز وأن الأرض تدور حول الشمس وأن القمر يدور حول الأرض كما أدرك الأبعاد الهائلة لمواقع النجوم.. وفي هذا سبقٌ مذهل عن اتساع الكون وعدم تناهيه وهي فكرة عظيمة كانت خليقة بأن تدفع العقول للتأمل العميق في هذا الكون الشاسع وأن تحاول التعرف على تكوينه وتركيبه والعلاقات القائمة بين الأجرام الهائلة السابحة في فضائه ولكن الذي حصل هو وصْم أريستارخوس بالضلال فكانت الإستجابة سلبية قامعة بدلاً من أن تكون استجابة إيجابية ناقلة.. إن الرفض القاطع لهذا الاكتشاف العظيم حين توصَّل إليه اريستارخوس قبل أن يتوصل إليه كوبرنيكوس بثمانية عشر قرناً يؤكد أن الاستجابة الإيجابية أهم من الريادة فقد رفضه معاصروه ثم تتابعتْ القرون من دون أن تحصل أية عناية به أو إعادة بحثه من أجل التحقق منه وهذه ليست حالة خاصة وإنما هذا مصير أكثر الريادات الخارقة فقد شهدت كل العصور ريادات كثيرة خارقة وكانت واعدة بتقدم عظيم لو استجيب لها لكن طواها الزمن من غير أن يستجاب لها فلم تترك أثراً إيجابيا بل عمقت أولوية الرفض.. إن هذه الظاهرة البشرية المتكررة تؤكد أن مثل هذا الرفض هو مصير كل اكتشاف خارق أو فكر مضيء أو داع إلى وضْع جديد إذا لم تكن البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية متهيئة له.. إن الرفض التلقائي للمغاير هو السلوك الطبيعي للناس خلال التاريخ البشري كله ومن مختلف الثقافات فهي طبيعة بشرية أوَّلية ثابتة تُعَبِّر عن نفسها وفق ما تتيحه الظروف وما توحي به التغيرات حتى على مستوى العلوم الحديثة نجد الأسبق يتحفَّز دائماً لمقاومة الطارئ. وفي تاريخ العلم شواهد كثيرة كافية لتأكيد ذلك إن هذه الطبيعة البشرية المتحفزة للرفض هي التي أبقت مجتمعات كثيرة مغلولة بقيود التخلف رغم ما تمور به الدنيا من أفكار خلاقة ازدهرتْ بها مجتمعاتٌ أخرى كثيرة وكما يؤكد ريتشارد بيبس في كتابه (التلاقي) فإن : (الأفكار لاتُحدث تأثيراً إلا عندما تكون التربة والمناخ ملائمين، إن لبَّ المشكلة لايتعلق بطبيعة الأفكار المطروحة وإنما بطريقة استقبالها). فإدراك قيمة الأفكار الصحيحة الخلاقة مرتَهَنٌ بما هو سائدٌ في البيئة ومهما بلغت عظمة الأفكار فإن البيئة تتلقاها بالرفض الفظ العنيف أو بالإهمال والاستخفاف ما لم تكن البيئة متهيئة فكرياً وثقافيًّا وسياسيًّا لاستقبالها ومستعدة نفسيًّا بأن تستجيب لها فابن رشد رائدٌ عظيم لكن أُمَّته لم تستجب له بل رفضتْه رفضاً صارماً عنيفا بينما كان تأثيره في أوربا قويًّا وفاعلاً ومثله ابن الهيثم وابن النفيس والرازي وغيرهم من الرواد الذين رفضتهم بيئتهم ووجدوا من يستجيب لهم خارج هذه البيئة التي ترفض أيَّ فكر جديد مغاير.. إن كل ثقافة لها كيانٌ مستقلٌّ وروحٌ فريدة ولديها جهازٌ مناعيٌّ شرس جاهزٌ للرفض التلقائي لأي طارئ لايتوافق مع الكيان الثقافي. إن هذا الرفض التلقائي العنيف هو من الثوابت الثقافية البارزة المعيقة.. إن الفارق الحاسم بين الرفض القاطع على امتداد ثمانية عشر قرناً للاكتشاف حين جاء به أريستارخوس ثم قبوله التدريجي حين جاء به كوبرنيكوس يقدم شاهداً قويًّا على أنه ليس المهم ظهور الريادات الخارقة ولا بزوغ الأفكار المضيئة ولا صدق دعوات التغيير ولا وجاهة نداءات الإصلاح وإنما المهم هو نوع الاستجابة العامة التي تقابَل بها فحين توصَّل أريستارخوس إلى هذا الاكتشاف المثير لم يكن العقل البشري متهيئاً بأن يستوعبه ولا بأن يستجيب له رغم أنه ظهر في بلاد اليونان التي هي منبع الريادات الحضارية المتوثبة لكن الاكتشاف كان متعارضاً بقوة مع معطيات الحس وبداهات العقل فجعله ذلك مستبعَداً كلَّ الاستبعاد أما حين أعاد الاكتشاف كوبرنيكوس فإن المجتمعات الأوربية كانت من الناحية الفكرية متهيئة نسبيًّا لاستقباله استقبالاً إيجابيا والاستجابة له بقوة وفاعلية من قطاعات كبيرة وإن كانت استجابة مشوبة بالتلكؤ في البداية والرفض من قطاعات أخرى نافذة.. إن الريادات الخارقة ليست نتاج البيئة التي تظهر فيها وإنما هي إضاءات نافرة خارقة ومغايرة للنسق السائد وبسبب هذا الاختلاف النوعي الفاصل بين الريادة والبيئة فإنه يتكرر ظهورها في بيئآت متخلفة فيطويها الزمن دون أن تترك أثراً إيجابيًّا بل ربما كانت النتائج عكسية كما حصل مع ابن رشد والكواكبي والأفغاني وطه حسين وزكي نجيب محمود وغيرهم من رواد الفكر والعلم والإصلاح فالحقيقة التي تهمني هنا هو أنه ليس المهم أن يظهر روادٌ خارقون في أي مجتمع ولكن الأهمية القصوى تكمن في المجتمع ذاته ومدى قدرتة على استيعاب مضمون الريادة حيث تدل وقائع التاريخ على تلقائية الرفض فالمعتاد هو تسفيه الرائد والاستخفاف بما جاء به أو محاربته من الثقافة السائدة إذا لوحظ أنه بدأ يكتسب أتباعاً فالإنسان هو ابن مألوفه ولا يقبل أن يتخلى عن هذا المألوف إلا بزلزال يقتلعه رغماً عنه... إن وقائع التاريخ منذ عصوره السحيقة وحتى الآن تؤكد أن الناس حتى العلماء إذا تآلفوا مع تصورات مستقرة شائعة فإنه من الصعب عليهم أن يُصْغُوا لما يخالفها حتى لو كانت خاطئة فهذا الرفض التلقائي يُغلق أبواب التحقُّق فتحتفظ الأوضاع السيئة والتصورات الخاطئة بقوة الاستمرارية فالرفض تلقائي أما القبول فمضاد للتلقائية فلا يتحقق إلا بكسر تلقائية الانتظام مع ما هو سائد؛ لذلك فإن ريادة أريستارخوس الباهرة ظلت مرفوضة ثمانية عشر قرناً لمجرد أنها تتعارض مع بداهة الحس ولا تتفق مع ماقرره أرسطو ثم بطليموس وهكذا تبقى البشرية مرتَهَنة عشرين قرناً لتصور خاطئ مع أنه يتعلق بحقيقة أساسية.. إن علينا أن ندرك أن الريادات تكون في الغالب خارج النسق السائد لذلك فإنها مهما كانت خارقة وعظيمة كريادة ابن رشد وابن النفيس وابن الهيثم والفارابي وأمثالهم لاتكون مؤثرة تأثيراً إيجابياً إلا إذا كانت البيئة الثقافية متهيئة بالقدر الكافي لفهم محتواها وقبول هذا المحتوى والاستجابة الإيجابية الكافية لها فالحقيقة الكونية التي كانت مرفوضة رفضاً قاطعاً حين قال بها اريستارخوس نجدها قد أحدثت رجَّة مزلزلة حين أعاد القول بها كوبرنيكوس حيث يعلم المهتمون بأن ذلك الاكتشاف كان نقطة تحول حاسمة في أوربا في القرن السادس عشر فقد رجَّ العقل الأوربي رجًّا قويًّا دفعه إلى أن يعيد النظر في الكثير من البداهات السائدة التي كانت تشل حركته وتبقيه مأسوراً لموروثات تتعارض مع حقائق الكون فالاستجابة الإيجابية أهم من الريادة ذاتها فغياب الاستجابة الإيجابية هو المعضلة الدائمة أما الريادة فلايمكن الافتقار إليها افتقاراً كليٍّا فقد يتأخر ظهورها في بعض المجتمعات لكن لايمكن أن تغيب غياباً دائماً بل التاريخ يؤكد تكرار ظهورها فيأتي الخلل من البيئة التي تكون جاهزة للرفض أو الاستخفاف، وعدم إدراك القيمة التي تحْملها فلم تتأخر المجتمعات لعدم توفر الريادات الفردية وإنما تتخلف كثيراً لغياب الاستجابة العامة الإيجابية.. كانت لأرسطو رؤية عن الكون تتفق مع بداهات الحس فكان يعتقد أن الأرض هي مركز الكون ثم جاء بطليموس وأدخل بعض التعديلات على نموذج أرسطو ولكنه بقي يعتقد أن الأرض هي مركز الكون واستمرت الإنسانية مأسورة بهذا الاعتقاد حتى نقضه كوبرنيكوس حين اكتشف أن الأرض كوكبٌ تابع للشمس.. ورغم أن وقائع التاريخ تؤكد أنه لايمكن تحقيق أي تقدم في أي مجال إلا بتجاوز السابقين إلا أن تلقائية التبرمج بتراث الأسلاف ظلت تحجب هذه الحقيقة فبقيت المجتمعات تتمسك بالماضي، وترفض الأفكار المغايرة له فلا تستجيب للمغاير إلا إذا اضطرت بأن تصغي إليه وأن تفتح بصيرتها لتحليل ما كانت ترفض أن تضعه موضع المراجعة والمناقشة والفحص .. أما إذا بقيت تملك قدرة الرفض فإن الرفض يبقى سائداً بل تتضاعف قوته بما يستجد من ردود ومحاولات تفنيد لكل ما هو جديد وما تضيفه مع كل ما تتوهم أنه تهديد فتتضاعف بذلك الحصون والقلاع والمتاريس والخنادق والتحذيرات والتحفظات والحواجز النفسية وبهذه الآلية التلقائية تصمد الأوضاع القائمة مهما كانت سيئة.. فالوضع التلقائي هو أن المجتمعات تبقى مرتهَنة بالتسليم التام للماضي وللسائد بأشخاصه وتصوراته وقيمه واهتماماته من دون مراجعة أو فحص أو تحليل أو تمحيص. إن تبجيل الكبار يستبقي أخطاءهم سائدة، ويحميها من المناقشة والتفنيد وهي من أبرز الظواهر البشرية ويأتي أرسطو في مقدمة هؤلاء العظماء فقد نال من التبجيل ما جعل أقواله الخاطئة عصية على النقض فهو عظيم حقًّا وقد قال عنه هيجل : (لايمكن لأي عصر أن يُقَدِّم نظيره)، ووصفه دانتي بأنه : (معلم المعلمين) ولكن ما يجب تكرار التأكيد عليه هو أن العظماء مهما أخطأوا ليسوا مصدر الإعضال فمنطق العلم يؤكد بأنه لا عصمة لأحد من البشر مهما عظُمتْ مكانته فالواجب أن يتعلم الناس هذه الحقيقة وأن تبقى احتمالات الخطأ من أي إنسان حاضرة في وعيهم لكن هذا الحضور للاحتمالات لم يتحقق فمن طبيعة البشر أنهم لايقبلون تخطئة العظماء فالذين يبجلون أرسطو كغيرهم يغيب عنهم بأنه رغم عظمته يبقى محكوماً بالنقائص البشرية، فهو واحدٌ من الناس.. إنه يخطئ ويصيب ولأنه عظيم ويتحدث في قضايا كبرى فإن أخطاءه قد تكون فادحة فالعظمة في مجال العلم لاتمنع من أن يقع العظيم في أفدح الأخطاء رغم اتساع علمه وعمق تفكيره وشدة اجتهاده ودقة موضوعيته فأخطاؤه تكون كبيرة بقدر عظمته وقد أدى ذلك إلى الإسهام في تعطيل العقل البشري قروناً طويلة في مسائل كثيرة فاضطر الفلاسفة في العصر الحديث أن يمعنوا في نقده لتحرير العقل من أخطائه.. وقد وصفه الفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند راسل بأنه كارثة ولكن هذا القول ليس صحيحاً فأرسطو أسهم في تأسيس وبناء العقل الفلسفي والعلمي والمنطقي وكان له فضلٌ عظيم فالخلل ليس به ولا هو منه وإنما من العقل البشري الذي اعتاد أن يقدس الكبار ولا يقبل أن يوجَّه النقد إليهم ولا يستسيغ أن يعترف بأنهم يخطئون.. لا أكتب عن كوبرنيكوس لذاته فرغم أنه يستحق أن يُكتب عنه وأن يشاد به إلا أنه قد نال من الاهتمام مالا مزيد عليه أما كتابتي عنه فليست لإضافة بضع صفحات إلى سجله الحافل بالأمجاد بل لما يمكن أن نستنتجه من ريادته من دلالات وإضاءات هي في غاية الأهمية فمن الاستقصاء حوله يظهر للباحث والدارس والمتأمل دلالات كثيرة مهمة منها : 1 – الدلالة الأولى : أن الإبداعات الأصيلة والاكتشافات المهمة والاختراقات الباهرة لاتتحقق بسهولة وإنما هي ثمرة الاهتمام القوي المستغرق فكوبرنكوس كما يقول ديورانت قد : عايش نظريته ثلاثين عاماً فأصبح يشعر بأنها بضعة من حياته ودمه وبأنها وصفٌ لحقائق الكون.. 2 الدلالة الثانية : رغم غبطته العظيمة بما حققه فإنه اضطر أن يتكتَّم عليه فلم يُطبَع كتابه إلا وهو على سرير الموت ويقول المؤرخون بأنه ابتسم حين جيء إليه بالكتاب مطبوعاً ثم أغمض عينيه إلى الأبد.. 3- الدلالة الثالثة : أن الريادة إذا كانت سابقة للبيئة سبقاً شديداً فإنها لاتجد قبولاً حتى من الفلاسفة والعلماء الذين يحرصون على اقتناص الحقائق ويلتزمون بالبحث الموضوعي ويسعون بطبيعة اهتمامهم إلى الاكتشاف لكن الطبيعة التلقائية تغلب التطبُّع فليس رفْض اكتشاف ارستارخوس في القرن الثالث قبل الميلاد والحكم بضلاله سوى مثال واحد من آلاف الأمثلة من الريادات الخارقة التي قوبلتْ بالرفض العنيف القامع فتلقائية الرفض للمغاير هي المعضلة البشرية الأشد استعصاء خلال مسيرة الحضارة.. 4- الدلالة الرابعة : أن النظريات الموغلة في بُعْدها عن التصور السائد وعن بداهة الحس لايكون فقط نصيبها الرفض في وقتها وإنما لغرابتها يندر تداولها أيضا في الكتابات اللاحقة حتى الكتب التي في نفس المجال حيث يظهر أن كوبرنيكوس لم يطلع على نظرية أريستارخوس لأنه اعترف بفضل كل من سبقوه ولم يُشر إليه ما يدل على أنه لم يطلع على نظريته.. 5- الدلالة الخامسة : أن الرائد اللاحق قد يتوصل إلى نفس الكشف أو نفس النظرية من غير أن يطلع على الكشف السابق فكوبرنيكوس أشاد بمن سبقوه ولم يذكر منهم أريستارخوس ولو كان قد اطلع على نظريته لما حَجَب ذلك فلن ينسب لنفسه نظرية غيره.. 6- الدلالة السادسة : أن موقف الناس في كل العصور وعند جميع الأمم من العظماء هو المبالغة المفْرطة في التعظيم إلى درجة قد تصل حدَّ التقديس ومع أن الجميع يكررون نفي التقديس إلا أنهم يقعون فيه حتماً بشكل تلقائي وثابت من غير أن يدركوا؛ فهم على مستوى الأقوال يكررون نفي تقديس عظمائهم لكنهم على مستوى الممارسة لايقبلون نقد أي عظيم ولا يتساهلون في تعريض أقواله وآرائه للناقشة التي قد تُفضي إلى التفنيد والنقض وقد نتجتْ عن هذه الحماية العمياء عواقب وخيمة فعلى امتداد العصور كان التبجيل المبالغ فيه لعظماء العلم والفكر يشل حركة العقل البشري ويعطل التفكير الإبداعي ويوقف نمو المعرفة ويستخف بالأجيال الواعدة ويعرقل تقدم الحضارة وعلى سبيل المثال فإن تعظيم الباحثين والدارسين لأرسطو وبطليموس جعلهم يبقون مأسورين قروناً لما قالاه ولا يحاولون البحث عن تصور أفضل حتى كوبرنيكوس نفسه كانت بحوثه الأولى يحاول فيها إيجاد حلول للمشكلات الناجمة عن فلك بطليموس وليس بهدف نقضه ففوجئ بأنه قد توصَّل إلى تصور مغاير بدلاً من إيجاد حلول لمشكلات التصور السائد.. 7- الدلالة السابعة : أن الريادة لن تصل إلى عموم الناس إلا عبر دوائر تتسع بالتدريج إلى أن تصبح الريادة مقبولة وشائعة فهي تحتاج إلى من يتلقونها من المريدين من أجل تبسيط المضمون ونشره وتحاشي أسباب الرفض بقدر الإمكان وهذا هو مافعله جيورج ريتيكوس الأستاذ الجامعي الذي كان شديد الإعجاب بكوبرنيكوس فنذر نفسه لتبسيط النظرية وكتابة إيضاحات تُخَفِّفُ إجفال الناس وتقلل من نفورهم وكما يقول ويل ديورانت في الجزء السابع من كتابه الفخم (قصة الحضارة) : (اندفع رياضيٌّ شابٌّ متحمس يعمل أستاذاً في جامعة فتنبرج وكان قد قرأ التعقيب واقتنع بصدقه وتاقت نفسه لمساعدة الفلكي الشيخ أحبَّ الفتى كوبرنيكوس حُبًّا جمًّا وتأثر تأثُّراً عميقاً بإخلاصه للعلم).. إن هذا الأستاذ بقي وفيًّا للنظرية وصاحبها وظل يواصل اهتمامه ويبذل كل جهد ممكن لنشرها والدفاع عنها.. 8- الدلالة الثامنة : أن النظريات غالباً لاتولد مكتملة فتكون بحاجة إلى مراجعة وتطوير وقد نهض كبلر بمهمة استكمال النظرية وسد الفجوات ثم جاء جاليليو فأثبتها تجريبيًّا وكان جوردانو برونو من أشد المتحمسين للنظرية وكان اندفاعه سبباً في الحكم عليه بالموت حرقاً من قبل محكمة التفتيش وكان بإمكانه أن يبقى خارج إيطاليا حيث كان يعمل في التدريس في جامعة أوكسفورد لكن حماسه الشديد دفعه للتحدي فجاء لمكان الخطر فصارت له تلك النهاية الفظيعة (القتل حرقاً).. لم يكن سهلاً قبول النظرية فالكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية رغم خصوماتها العنيفة اتفقت على محاربة النظرية ولكنها انتصرت في النهاية بوصفها بداية الثورة العلمية الحديثة..