إننا نعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية، التي تساهم في تفسير ظاهرة الصدام بين النخبة التي قادت التحول والتغيير في مجتمعها، هو أن هذه النخب تنتمي إلى أيدلوجيات مختلفة، وتتبنى خيارات سياسية مختلفة، وهذا الاختلاف والتباين يقودان هذه النخب لأن تعرف ما لا تريده، ولكنها لا تعرف حين بناء الوضع السياسي الجديد ما الذي تريده حين التأمل في التجارب الإنسانية والمجتمعية، التي خاضت ثورة أو تحولات جماهيرية، أفضت إلى تحول سياسي في نظام الحكم ومؤسسات الدولة، نجد أن جميع هذه التجارب، خاضت بعد تغيير نظام وشكل الحكم، سجالات وصدامات اجتماعية وسياسية، تحولت في بعض اللحظات إلى ممارسة العنف وسفك الدم.. وهذا المقال لا يستهدف تبرير وتسويغ ما يجري في أكثر من بلد عربي، تغيرت فيه أنظمة الحكم، ودخلت نخبة جديدة في مسؤولية إدارة الدولة ومؤسسة الحكم، وإنما غاية هذا المقال، هي الوصول إلى تفسير علمي - اجتماعي - سياسي لهذه الظاهرة.. لأن هذه الظاهرة تكررت في كل الفضاءات الإنسانية التي شهدت تحولات اجتماعية وسياسية كبرى.. وبصرف النظر عن أيدلوجية النخبة الجديدة، وطبيعة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها الشعب، ونوعية الخيارات الثقافية السائدة في البيئة الاجتماعية والسياسية.. ولا ريب أن تكرار هذه الظاهرة بتفاوت بسيط في كل التجارب، يثير الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة، التي تبحث عن تفسيرات علمية لهذه الظاهرة.. والشعوب العربية بكل خصوصياتها، ليست استثناء من هذه الشعوب والمجتمعات .. فما جرى في تحولات دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول في آسيا وأفريقيا، بدأت ملامحه بالبروز في المشهد العربي.. إلى درجة أنه تم نحت شعار في كل التحولات والثورات مؤداه أن الثورات تأكل أبناءها.. بمعنى أن النخبة التي قادت التحول والتغيير بعد وصولها إلى هدفها السياسي المباشر، تنقلب على نفسها، وتبرز تناقضاتها الأفقية والعمودية، وتتوسل بالعنف ووسائل المكايدة السياسية المختلفة للتسقيط والتسقيط المتبادل.. فيتم القتل والتدمير إلى أن يصل في بعض الحالات والنماذج إلى أفظع من ممارسات النظام السابق.. فتبرز في الفضاء الاجتماعي والسياسي ظاهرة ما نسميه التأسف على المرحلة السابقة.. بمعنى أن النخبة الجديدة وفي فترة زمنية وجيزة، استطاعت بعنفها الثوري وخياراتها المتسرعة، واستهتارها بحياة الناس وأوضاعهم المعيشية، أن تنسي مجتمعها عنف النظام السابق وخياراته المميتة والكارثية.. أقول إن هذه الظاهرة، تكررت في أغلب التجارب، مع تعدد خيارات النخب، واختلاف أيدلوجياتها وطبيعة الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها مجتمعها.. ويبدو من كل المعطيات أن هذه الظاهرة، ستتكرر في كل الدول والمجتمعات العربية التي خاضت تجربة التحول السياسي والاجتماعي في الفترة الأخيرة.. وبطبيعة الحال فإن الظواهر الاجتماعية والسياسية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى فهمها ومعرفة ميكانيزمات تأسيسها وتحولها إلى ظاهرة مجتمعية تتكرر في أغلب البيئات الاجتماعية والسياسية.. فالمطلوب أولاً ليس إطلاق أحكام قيمة ومواقف نهائية من هذه الظاهرة، وإنما المطلوب بالدرجة الأولى: بناء رؤية وتفسير علمي ودقيق ومتكامل لهذه الظاهرة.. وفي سياق المساهمة في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية - السياسية نذكر النقاط التالية : 1-إن النخب السياسية والاجتماعية التي قادت عملية التحول، تنتمي إلى خيارات وأيدلوجيات متعددة ومختلفة.. إلا أن هذا الاختلاف والتباين لا يبرزان بحدة في زمن ما يسمى بمرحلة النضال السلبي، وإنما يبرزان في اللحظات الأولى لعملية التحول الاجتماعي والسياسي.. بمعنى أن هذه النخب بصرف النظر عن دوافعها في الاشتراك في عملية التحول والتغيير، هي تعرف وتتفق إلى حدود عليا وقصوى ما لا تريد سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي إلا أن هذه النخب ليست متفقة ومنسجمة حول ما الذي تريده، ولعل هذا التباين الصارخ في بعض اللحظات بين ما لا تريده، والذي تريده، هذه النخب هو الذي يقود إلى التوتر والصدام.. فالنخبة السياسية والاجتماعية، التي قادت واشتركت في صناعة التحول في مصر أو تونس، هي متوحدة ومنسجمة مع بعضها البعض في ما لا تريده، ولكن حينما تغيرت الظروف السياسية والاجتماعية، أصبح المطلوب هو ماذا تريد النخبة أو النخب.. ومن جراء الاختلاف والتباين على هذا الصعيد، تدخل هذه النخب مع بعضها البعض في صدام وتوتر وتباين صريح.. ولكون القوى الاجتماعية تعيش مرحلة السيولة، فإن أغلب هذه القوى تنزلق في مشروع الصدام والتوتر، لضمان موقعها في الوضع الجديد وتقزيم بعض القوى المنافسة.. إننا نعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية، التي تساهم في تفسير ظاهرة الصدام بين النخبة التي قادت التحول والتغيير في مجتمعها، هو أن هذه النخب تنتمي إلى أيدلوجيات مختلفة، وتتبنى خيارات سياسية مختلفة، وهذا الاختلاف والتباين يقودان هذه النخب لأن تعرف ما لا تريده، ولكنها لا تعرف حين بناء الوضع السياسي الجديد ما الذي تريده.. فالوحدة الشكلية والقشرية في مرحلة معرفة ما لا تريده، تتحول إلى تشظّ وتشرذم وبناء تحالفات على القواعد وأسس جديدة في مرحلة التباين على الذي تريده هذه القوى والفعاليات.. 2-من المؤكد والطبيعي أن القوى المضادة للتحول والتغيير، تعمل بكل إمكاناتها لعرقلة أو إفشال عملية التحول والتغيير.. لهذا فإننا نعتقد أنه في كل التجارب الإنسانية والسياسية فإن القوى المضادة للتحول، لا تستسلم وترفع الراية البيضاء، وإنما تعمل على تجميع أطرافها وحشد طاقاتها لإفشال وعرقلة هذا التحول، ومعاقبة القوى الشعبية التي ساهمت في إسقاطها.. لهذا فإن القوى المضادة في كل هذه التجارب، تتحمل جزءاً من مسؤولية الانزلاق نحو العنف والتوتر المفتوح على كل الاحتمالات في الدول التي شهدت تحولا سياسيا قادته قوى الشعب المختلفة .. 3- لعل من أخطر المراحل التي يواجهها أي شعب من الشعوب، هي مرحلة السيولة السياسية والانسياب الأمني والتشظي الاجتماعي.. لأن هذه المرحلة ليست راعيا حقيقيا وقانونيا للمجتمع ومصالحه المتنوعة.. لأنه في هذه المرحلة، تبرز كل الفئات المجرمة والغوغائية، والتي تعمل على استثمار هذه المرحلة في زيادة وتيرة جرائمها وحسم خلافاتها بالعنف، واستخدام القوة العارية، وتصفية حساباتها مع قوى اجتماعية منافسة لها.. إضافة إلى هذا انزلاق بعض القوى المجتمعية نحو ممارسة العنف ضد المخالفين لهم في الخيارات السياسية والأولويات.. وبالذات بعض تلك القوى التي تشعر بأنها لم تحصل على مكاسب سياسية بمستوى جهدها ونضالها وتضحياتها.. أحسب أن هذه النقاط الثلاث، هي أحد المداخل الرئيسة لتفسير ما يجري من أحداث وتطورات صدامية وعنفية باسم الثورة في بعض البلدان التي سميت دول الربيع العربي.. ومن الضروري أن لا نغفل في هذا الإطار عن ذكر الحقيقة التالية: أن صدام النخبة مع بعضها البعض ليس قدرا مقدرا، وإنما هو نتاج ظروف سياسية واجتماعية، حاولنا أن نوضح بعضها في السطور السابقة، إلا أنها في كل الأحوال ليست حتمية.. بمعنى أن بإمكان شعب من الشعوب أن يتجاوز حالة الصدام العنفي، ويدير تناقضاته الأفقية والعمودية بوسائل سلمية، تراكم من مكاسب المرحلة الجديدة، ولا تُدخل المجتمع بكل شرائحه وفئاته في أتون الصدامات العبثية.. وإن بناء أفق ومجال جديد للتنافس السياسي بين قوى المجتمع السياسية والمدنية والنقابية، يتطلب من الجميع الاهتمام ببناء تفاهمات دستورية عميقة، تحول دون الانقلاب عليه، أو التلاعب به من قبل قوة نافذة.. إننا نعتقد أنه لايمكن بناء حياة سياسية جديدة، خالية من ممارسة العنف إلا ببناء منظومة قانونية متكاملة ولها سيادة على الجميع.. فهذا هو حجر الأساس في مشروع إنجاز الانتقال السياسي بأقل استخدام ممكن للعنف ومتوالياته السياسية والمجتمعية..