أخذ يغذ السير في الطريق الموحش الطويل من مدينة الخميس متجها صوب بيشة النخل.. عله يتجاوز المفاوز المهلكة قبل حلول المساء، على أن التعب قد أخذ منه كل مأخذ، فأسند ظهره إلى صخرة قبيل الغروب، شرب شربة من ماء يسير كان معه، لكن القدر كان له بالمرصاد، فقد اقتربت منه خلسة أفعى غاضبة ظنته مستوليا على جحرها، فغرست أنيابها في قدمه. أخذ الرجل شفرته، فجرح مكان اللدغ، وقص السم بفيه، وربط ساقه بقطعة من قماش، على أن تلك الاحتياطات لم تك كافية فغاب عن الوعي . كانت هناك سيارة تجوب الطريق الترابي الصخري بين بيشة ومدينة الخميس في بداية العهد السعودي الزاهر، لعلها مرة كل أسبوع، كان قائد تلك السيارة يدعى عثمان من أبناء قبيلة شهران ، شاءت إرادة الله أن تمر هذه السيارة ، وبها مجموعة من الركاب قد حملوا ما تيسر لهم من مستلزمات بعد أن باعوا بضاعتهم في المركز التجاري آنذاك في مدينة الخميس . توقف قائد السيارة عثمان عند الرجل الملقى على قارعة الطريق، كان بين أمرين أحلاهما مر، إما أن يواصل طريقه إلى بيشة النخل ويترك الرجل، أو أن ينزل الركاب ويأخذ الرجل ويرجع إلى مدينة الخميس حيث المستشفى الوحيد القريب آنذاك، فلم يكن في بيشة مستشفى وقتذاك . اتخذ عثمان قراره ، وأنزل الركاب في ذلك المكان القفر ، بعد أن وضع عندهم بعض ما توفر من المياه والزاد ، واتجه بالرجل إلى المستشفى ، ولم يكن المشوار سهلا ، فكان الطريق جلدا صخريا صعبا . لكنه صمم على انقاذ الرجل رغم معارضة بعض الركاب وحاول الوصول بأقصى سرعة ممكنة تستطيعها سيارته المتواضعة . وقد مكث الركاب في انتظار عثمان ورفيقه ، وقام بعضهم ممن أيد فكرة عثمان تقديرا لموقف السائق الشهم بجمع عدد من أحجار المرو الناصعة البياض وتركها في المكان ، دلالة على عمل عثمان الذي يبيض الوجه . وشاءت إرادة الله أن يصل عثمان بصاحبه للمستشفى وأن يستجيب الرجل للعلاج ، ويتشافى ويعود الرجل إلى بيشة ، وأصبح المسافرون على هذا الطريق كلما مروا بالموقع وضعوا حجارة بيضاء حتى أصبحت ردما ظاهرا ورمزا بارزا وكانوا يقولون : "بيض الله وجهك ياعثمان" وسمي المكان بياضة عثمان . وأصبح موقعا شهيرا تحكى حوله مروءة وشهامة الرجل. سادت بين الرجلين علاقة ود ومحبة ، وأصبحا لا يفترقان عن بعضهما إلا نادرا ، حتى فرق بينهما هادم اللذات ومفرق الجماعات على أن يجمعهما الله برحمته في جنات الخلد أبد الآباد ، حيث يجتمع المتحابون تحت ظل الله الكريم هذه قصة واقعية ذكرت إجمالها ، ولا أذكر تفصيلها ، وقد حكيت لنا حين مررنا بهذا الموقع برفقة بعض الزملاء في شهر الله المحرم سنة 1423 ه . وكنت وقتذاك عضوا ومقررا في لجنة حصر المواقع الأثرية بمنطقة عسير ، وكان الطريق قد تحول عن هذا الموقع ، وأصبح طريقا معبدا ، إلا أن هذا الردم من أحجار المرو الناصعة ظل دليلا على شهامة عثمان ، وعلى العلاقة الحميمة التي جمعت بين الرجلين، وأصبحت هذه العلاقة حديث الناس حتى رحيلهما عن الدنيا الفانية . جالت بخاطري هذه الحكاية بعد 11 عاما من المرور على مكان الحدث ، وتساءلت: كم من الناس يكافئون المعروف بالود والحب ، وكم من الناس كعثمان وصاحبه. وكم من محطة في الطريق قد صنع فيها أناس معروفا ومضوا ، وكم من محطة صنع أناس فيها مكروها ومضوا.. وكم من الناس من تنكر بل جازى الإحسان بالإساءة بدلا من العرفان. سواد X بياض : أناس السواد يلتحف أجسامهم ذات الوجوه البيضاء، يحيطون أنفسهم بهالة تفصلهم عن المجتمع الذي جاؤوا من أجله ، شجرتهم يستظل بظلها جماعتهم ومن يرون نفعهم لهم ، هؤلاء لو أتوا بمرو جبال السراة كلها ما نصعت سيرتهم وسيتركون السواد ، وسيذهب الزبد جفاء . اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. * جامعة جازان