(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فلماذا يصر كثيرون على البقاء في الظلمات؟ لماذا يصر بعضهم على نزع هذه الصفة من هذا الكتاب، فلا يجعله كتاب هداية ونور؟ لماذا لا تفهم هذه الإرادة في ضوء السورة كلها، عبر قصصها وتقعيداتها وإخبارها؟ لماذا يصرون على تبديل نعمة الله كفرا ويحلون قومهم دار البوار؟ إن أعظم الظلمات أن تعشى عينيك محبة الدنيا فتنسى وأنت تبحر في عبابها آخرتك، إذ هناك هي الحياة التي ينبغي أن يعمر مسكنها المرء منا بما يود لنفسه أن تهنأ وتهدأ وتسعد بها وفيها. إن حب الدنيا إذا استولى على القلب أعماه عن رؤية الحق والتفكير بعقل، فلا يعود يبالي إلا بما يثري دنياه ولو ظلم ولو أفسد ولو تجاوز كل حد شرعي أو عقلي أو أخلاقي، فمبلغ علمه ومنتهى همه دنياه الفانية، التي لم تدم لأحد، وكله يقين بهذا! ومن الظلمات التي لا يبرح بعض الناس ينغمس في لجتها ويغطس في مستنقعها ظلمات الصد عن سبيل الله، ويبعدون النجعة حين يحسبون الصد عن سبيل الله له طريق واحدة فحسب، والحق أن طرائق الصد كثيرة أخطرها الصد العملي فلا يكتفى الصاد بالتزيين والوسوسة والخداع بزخرف القول حتى يصد عن سبيل الله بأفعاله فيتبع القول العمل، وربما اكتفى بمخالفة القول للعمل، كما هو مشاهد حين تزدوج شخصية المسلم في بلاد غير المسلمين فيعيش كما يعيشون فلا يفرق الناظر في حياتهم وحياته بينهما! يشرب الخمر كما يشربون، يغشى النوادي كما يغشون، بل ربما جاوزهم فغش وهم لا يغشون، وكذب وهم يصدقون، وأخلف الوعد في حين لا يخلفون، فكانت حياته أشد ابتعادا عن دين يحمله منهم، وافتحر بإيمان في قلبه لا يرى ولا يؤثر. ومن أعظم الظلمات أن تبغي العوج لما هو مستقيم فتسعى في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين، ولا تظنن الفساد محصورا في فساد الأخلاق فحسب بل هو شامل لكل اعوجاج فيما ينبغي استقامته، فساد في السلوك وفي الإدارة وفي المال وفي الحياة مع الأهل والأصحاب والمجتمع، فساد في الفكر واعوجاج في التفكير فترى القبيح حسنا، وترى الفجور عفة، وتظن الباطل حقا، وربما خادعت نفسك فسميت القبيح باسم حسن لتغطي قبحه وتستر سوءته، فتسمي الرشوة هبة أو عمولة، وتسمي الربا ربحا أو فائدة، وهلم جرا. هذه هي ظلمات الاعوجاج في الحياة التي ينبغي الحرص على استقامتها ومدها بحبل من الله وهديه. ظلمات بعضها فوق بعض من أبحر في مياهها الآسنة لم ينج إلا أن يشاء الله. فليت قومي يتفكرون في هذه الآية الأولى من سورة إبراهيم، ثم يجمعون بينها وبين الآيات في خاتمتها حيث يكثرون تردادها خاصة في مثل هذه الأيام الربيعية عربيا، فيبكون ويتباكون وهم يتلون (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) فيعتقدون أن أخذ الله للظالم يكفي فيه الدعاء عليه من دون اتخاذ أسباب ذلك، ومن أهم الأسباب أن يخرج المظلوم من الظلمات التي يشارك فيها الظالم، إذ تغشى الظالم ظلمات ظلمه وبطشه وجبروته، ويمدها ويطيل زمانها ما يغشى المظلوم من ظلمات جهله وبعده عن الحق وسعيه إليه، وظلمات الذل والخنوع والمسكنة لا يمكن أن يخرج منها من لم يؤمن بالحق وبالعدل، ويستند إلى قوة متينة تمده بعونها وتوفيقها، ويحمل قبسا من نورها يهتدي به ويبدد به هذه الظلمات، فبصيص النور يكسر حدة الظلام مهما كان هذا البصيص ضعيفا أو بعيدا (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).