هل بإمكاننا التعامل مع منجزات الحداثة الغربية فيما يتصل بتجديدالوعي العربي أولنقل فيما يتصل بعملية الإصلاح عموماً مباشرة بدون إدخالها في المحيط المعرفي للتراث العربي عموماً؟ بمعنى هل يمكن إصلاح مؤسسات المجتمع عموماً باستخدام الأدوات المعرفية والآليات التي توفرت للتجربة الأوربية في محضنها وضمن محيطها الجغرافي وداخل مسيرتها التاريخية التي أنتجت تلك الآليات الثقافية التي أخذت على عاتقها مهمة توفيرالوقود اللازم لإذكاء الجدلية الصراعية بين قديم وجديد الوضع الأوروبي الذي كان قائماً آنذاك عندما اجتاحتها عاصفة فلسفة التنوير، بحيث وفر جدلاً استمرداخل مكونات الثقافة الأوروبية للبحث عن جذورتراثية - دينية بالذات - لتلك المفاهيم الحداثية بحيث حازت في النهاية على قبول الذهنية الشعبوية الأوروبية بعدأن تم تبيئتها داخل الوعي الأوروبي باعتبارها كانت جزءاً من تراثه، الأمرلم يتحقق أوربما لا يوجد له مثيل في التجربة الإسلامية؟ أم أن الأمريستلزم والحالة هكذا الإحاطة بمعطيات التراث الإسلامي نفسه - نصاً وتجربة تاريخية- للبحث عن أية ممارسات أوأفكارأونصوص تؤسس لأية تجربة إصلاحية حداثية إسلامية لإيجاد مُكَوِّن جذري لها ومن ثم على ضوئها يجري تبيئة المفاهيم الحداثية الأوروبية و خاصة مفاهيم عصرالتنويرالذي شكل فصلاً تاريخياً بين ماقبل وما بعد في التاريخ الأوروبي الحديث في التجربة الإصلاحية الإسلامية باعتبارها - أي المفاهيم الحداثية الأوروبية - أدوات مساعدة للإصلاح الأسلامي - أرمزهنا لواقع المسلمين أنفسهم - ضمن أدوات أخرى مشابهة مستوحاة من داخل التراث الإسلامي؟ كلا الرأيين كان لهما حضورهما في اهتمامات المثقفين العرب، من يرى استلهام التجربة الأوروبية مباشرة بدون تبيئة مفاهيمها في التراث العربي ينطلق من افتراض أن مقومات ومفاهيم الحداثة الأوروبية لا تعدو أن تكون إرثاً إنسانياً مشتركاً حتى وإن كانت ذا منشأ ومحضن أوروبي، وبالتالي فالشعوب كافة ومنها الشعوب العربية والإسلامية مدعوة للأخذ بها وإدخالها في محيط الوعي العام للنهوض الحضاري من خلالها، أما من يرى الرأي الآخرفيعتبرأن أية مفاهيم أومصطلحات تنويرية بلا جذور تراثية يتم تبيئة تلك المفاهيم من خلالها في الوعي الجمعي في المحيط المراد تحديثه لن يكتب لها النجاح باعتبارأن النظرة لها ستكون حينها باعتبارها أجنبية المصدر لا وجود لها بنفسها ولا المشابه لها ولا حتى مجرد تجريد خاص بها في التراث المعني، ومن ثم ستفقد خاصيتها الضامنة لنجاحها وأعني بها استلهامها في الوعي العام للأمة أوالشعب المراد إنهاضه أوتحديثه على سبيل أوخطى تلك المقومات المفاهيمية الحضارية . أبرزالقائلين بالرأي الأول الداعي إلى الحفرالأركيولوجي في التراث العربي أولاً لإيجاد صيغة مماثلة أومشابهة لأية مفاهيم أومفردات حداثية، هوالمفكرالمغربي المعروف الدكتورمحمدعابدالجابري الذي دعا في كتابه(نحن والتراث /من منشورات المركزالثقافي العربي) إلى ضرورة منهجة الحداثة العربية المبتغاة فيلولوجياً بردها إلى أصولها في التراث العربي ولوبالبحث عن مقارب لها سواء في المجال النصي أو في الموضعة التاريخية بهدف استزراعها داخل الذاكرة والوجدان العربيين ومن ثم إيجاد أرضية القبول المناسبة لها اجتماعياً بدل أن تُسوَّق له باعتبارها تراثاً أجنبياً عنه لا صلة لها بجذوره، أما المفكرالليبي الصادق النيهوم الذي تماهى مع الجابري في رأيه ولكن من زاوية أخرى، فقد ذهب إلى أن الحداثة الغربية والديمقراطية منها بوجه خاص كانت وليدة ظروف خاصة لا يتوافرعليها التراث العربي، إذ أكد في كتابه(الإسلام في الأسر/من منشورات رياض الريس) إلى أن(الديمقراطية الرأسمالية ليست فكرة يمكن استعارتها، بل هي بيئة تشكلت خلال قرون من معايشة الثورة الصناعية التي فرضت ظهورقوتين جديدتين على تاريخ الحضارة بأسره، هما قوتا التجاروالعمال،ونجحت بالتالي في خلق سلطة حزبية بديلة عن سلطة الإقطاع والكنيسة، وكل محاولة لنقل هذا النظام الحزبي إلى بلدغيرصناعي فكرة من شأنها أن تحيل الديمقراطية الرأسمالية إلى تمثيلية هزلية، تختفي وراءها أعتى نظم الطغيان، وأكثرها جبروتاً وقسوة). النيهوم يستشهد لرؤيته تلك بانهياروفشل تجربة الأحزاب العربية منذ مطلع القرن الحالي باعتبارها شهادة مؤكدة على عدم تمثيل تلك الأحزاب للجماهيروالأمة لأنها نتاج غريب عن التجربة التراثية العربية، ودعا إلى الأخذ بالأسلوب الأركيولوجي الفيلولوجي نحوالبحث في عصب وصفحات التراث عن ما يملأ الفراغ الوجداني العربي من نتاج الإرث الأصلي لإنتاج مفردات حداثية تحاكي ما أنتجه الغرب اعتماداً على ظروفهم وتراثهم، أوبعبارة دالة «قدرتهم على تبيئة مقومات النظام الديمقراطي الذي أنتجوه» اعتماداً على تخصيب بذوره من النتاج الإغريقي والمسيحي بصفة خاصة باعتبار سهولة وسرعة المواءمة الاجتماعية مع مايُراد تدشينه إذا مرت هذه المواءمة من خلال تراث ديني. أما الجابري فيستشهد لرؤيته بضرورة الربط بين الحداثة العربية وأصولها التراثية بما قام الفلاسفة الأوروبيون من محاولات لإيجاد مُكوِّن تراثي لأي مفردة نذروا أنفسهم لصياغتها في الوجدان الجمعي الأوروبي، من ذلك مثلاً ما قام به أولئك الفلاسفة من جهد لإيجاد مُقَوِّم جذري تراثي لتبريرتمييزومن ثَم فصل الزمني عن الروحي، فمثلاً قام القديس توما الإكويني( 1225- 1274م)وهوأكبر الفلاسفة اللاهوتيين الأوروبيين الذين تولوا مهمة التوفيق بين الدين والفلسفة، في إطارمشروعه نحوتدشين نظرية وسيطية للدولة كما يقول جان جاك شوفالييه في كتابه (تاريخ الفكرالسياسي) بَنصرنة أرسطو، أي بنقل نظرياته في مجال تدشين القانون الطبيعي إلى مجال الفكرالمسيحي للقرون الوسطى بحيث توصل إلى أنه بالرغم من أن السلطة السياسية ذات مصدرإلهي منظوراً لها بالاعتبارالمجرد من خلال قدرة أي إنسان(خِلقياً) مالك لسلطة ما على ممارستها تجاه إنسان آخر،إلا أن هذه السلطة من حيث ممارستها وشروط اكتسابها واستعمالها ذات أصل طبيعي تضرب بجذورها في الطبيعة الإنسانية نفسها، إذ أن الإنسان يحتاج لهذه السلطة من أجل تحقيق غاياته الأرضية فقط، ومن ثم فهي ضرورة طبيعية وليست ناشئة من تعاقد حصل على إثرخطيئة معينة لتكون - أي السلطة السياسية - قصاصاً إلهياً لها كما كان مسيطراً على الفكرالوسيطي الأوروبي، وتأتي من ثم دراسة هذه السلطة وأساليبها وآلياتها ضمن اختصاص العقل الطبيعي الإنساني فقط، هكذا إذن وضع القديس توما الإكويني أولى بذورفصل السلطة السياسية لتكون زمنية خاصة أوبتعبيرآخروضع أولى خطوات دنيوية السياسة ولكن من خلال استنباتها تراثياً بربطها بالنظرية الأرسطوطاليسية التي تنظرإلى الطبيعة بقوانينها ونظمها بوصفها سبباً ثانياً، وبنفس الوقت أيضاً إلباسها لبوساً دينياً من خلال استشعار إلهية السلطة بوصفها المجرد. (يتبع) [email protected]