يتصدى د. محمد عمارة في كتابه الصادر حديثًا (رد افتراءات الجابري على القرآن) إلى نقد وتفنيد الأخطاء والشبهات التي أثارها د. محمد عابد الجابري في مؤلفه (مدخل إلى القرآن الكريم) حول القرآن الكريم وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. الأصدقاء السعوديين يتكون الكتاب من تمهيد وأربعة فصول وخاتمة، في التمهيد تطرق الدكتور عمارة إلى ذكر الأجواء التي جمعته بالدكتور الجابري والمراحل التي مر بها في التعرف على أطروحاته الفكرية، وفي الصدارة منها ما تعلق بالقرآن الكريم، وهي التي دفعته إلى استصواب الرأي، في ضرورة الرد على الجابري رغم انتقال الأخير إلى رحمة الله تعالى، وفي إطار حرص عمارة المنهجي في استجلاء حقيقة مضامين كتاب الجابري والدوافع التي حدت به إلى تأليف الكتاب، أورد عمارة ما ذكره الجابري في المقدمة عن دوافعه في تأليف الكتاب من طلب بعض أصدقائه السعوديين أن يتناول القرآن الكريم في كتابه القادم، وكذلك ما أشار إليه عمارة من استعارة الجابري لعنوان الكتاب من أحد المستشرقين. القطيعة مع التراث يستعرض عمارة في الباب الأول (موقف الجابري من التراث) نظرة الجابري إلى التراث، من خلال عرض الأفكار المحورية القائمة في هذه النظرة، حيث يعتبر الجابري أن (الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه، لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من «القطائع» معه، إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعه، تراث جديد فعلًا..) وفي السياق ذاته يؤكد أن (الإبداع، بمعنى التجديد الأصيل، لا يتم إلا على أنقاض قديمٍ، وقع احتواؤه وتمثّله وتجاوزه بأدوات فكرية معاصرة) ويحدد منهجه في دراسة التراث فيقول (إننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو قراءات مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجوع ببعضها إلى «كانت» (1724- 1804م)، أو «فرويد» (1856- 1939م)، أو «باشور» (1884- 1962م)، أو «ألتوسير» (1921- 1990م)، أو «فوكون» (1926- 1984م)، بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية، التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها). ويشرح الجابري طريقته في استخدام المنهج المشار إليه في دراسة التراث أو التحرر من سلطته كهدف بحثي على النحو التالي (كيف نتحرر من سلطة التراث علينا؟ تلك هي مهمة المنهج الذي نقترحه، إنه منهج تحليلي.. بمعنى تحليل البنية. إن تحليل البنية معناه القضاء عليها، بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير، وبالتالي التحرر من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطتنا عليها، هذا النوع من التحليل هو ما أسميه «بالتفكيك».. تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما يهدف تحويلها إلى بنية، إلى مجرد تحولات، وهذا يندرج تحته، كما هو واضح، تحويل الثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، واللا تاريخي إلى تاريخي، واللا زمني إلى زمني). وكان الجابري قد حدد نطاق التناول الذي يشمله المنهج فأوضح أنه يضم (اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة، في الماضي والحاضر، هي العناصر الرئيسة التي تتكون منها المرجعية التراثية، التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها). تفكيك عبثي أمام ذلك ينبري عمارة للرد على الجابري في مسألة المنهج فيقول: نجد أنفسنا أمام المنهج التفكيكي «الصارم والصادم»!، الذي يستخدم «التفكيك العبثي والعدمي» لما بعد الحداثة.. تفكيك كل شيء في ميراثنا الإسلامي، بما في ذلك «المطلق» (الدين)، واللا تاريخي (الثوابت)، واللا زمني (الخالد).. تفكيك كل ذلك؛ بتحويل المطلق إلى نسبي، واللاتاريخي إلى تاريخي، واللازمني إلى زمني.. كل ذلك للتحرر من هذا التراث، وتحويله إلى أنقاض، وتجاوزه كله.. لا إلى المجهول، وإنما إلى البضاعة الجاهزة المعلَّبة التي تزاحم بضاعتنا، وتحاول أن تغلبنا على هُويتنا منذ قرنيْن من الزمان! المسار التكويني ويعرض عمارة في الباب الثاني (الترتيب الجابري للقرآن الكريم) لمسلك الجابري، في العزوف عن الأخذ بالترتيب الإلهي للقرآن الكريم كما يوجد في المصحف العثماني، وشروعه في إعادة ترتيب القرآن الكريم، بناء على الأخذ بمنهجية ترتيب أسباب النزول ومسار الدعوة المحمدية، حيث يبرر الجابري هدفه من وراء اللجوء إلى ذلك (بأن الهدف عندنا من «الترتيب حسب النزول» هو التعرف على المسار التكويني للنص القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية). ويتصدى عمارة للرد على الجابري في هذا الرأي فيتساءل (هل القرآن كتاب تأريخ لمسار الدعوة المحمدية؟!.. أم أنه كتاب هداية للدين والدنيا والآخرة.. للفرد والأمم والشعوب عبر الزمان والمكان؟ّ! وأن مسار الدعوة المحمدية هو مجرد مفردة من مفردات هذا القرآن الكريم؟ وأن الترتيب الجابري للقرآن لكي يكون تأريخًا لمسار الدعوة المحمدية، قد يفضي إلى ربطه بهذا التأريخ، ومن ثم يفتح باب «التاريخية والتاريخانية» التي تحيل القرآن الكريم إلى «الاستيداع» بعد طوي التاريخ صفحات الأحداث التي مثلت مسار الدعوة الإسلامية، والتي حدثت قبل نحو خمسة عشر قرنًا؟!.. كيف يتم تفسير كل القرآن وفق أسباب النزول، بينما الآيات التي لها أسباب نزول «قليلة جدًا» بالنسبة لمجمل آيات القرآن الكريم؟!). منهج مستورد ويفصل عمارة في الفصل الثالث (أخطاء.. لا خطايا) بين ما يمكن اعتباره من الأخطاء التي وقع فيها الجابري وما يعد من الخطايا، ويورد في قائمة الأخطاء: أولى هذه الأخطاء: تطبيق الجابري لمنهاج الوضعية المنطقية الأوربية في النظر إلى الوحي والدين والإيمان، ذلك المنهاج الذي تصور أصحابه أن للفكر غرفًا مغلقة.. فجعلوا للوحي والدين والإيمان غرفة مغلقة لا يدخلها العقل والعلم، إذ لا علاقة-بزعمهم- بينهما.. فللإيمان معايير هي التسليم والاستسلام، وللعقل معايير هي النظر والبرهان.. أي أن الوحي والدين والإيمان- وفق هذا المنهاج- لا علاقة لهما بالعقل والبرهان. الخطأ الثاني: جعل الجابري العبادات الإسلامية من ضمن (المنقول- اللا معقول).. وليست في متناول العقل. الخطأ الثالث: نفي الجابري عن الحنابلة للتحسين والتقبيح من خلال العقل. الخطأ الرابع: قول الجابري بالتناقض بين التجربة الروحية بما في ذلك تجربة النبوة وبين الحس والمحسوس والعقل والمعقول. الخطأ الخامس: مساواة الجابري بين القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في المقارنة بينهم. الخطأ السادس: حصر الجابري لتميز القرآن في مجال قصص الأنبياء، في ميزة طريقة العرض فقط، عند المقارنة بين القرآن والتوراة. الخطأ السابع: اعتقاد الجابري بوقوع حادثة الإسراء والمعراج من خلال الرؤية المنامية للرسول صلى الله عليه وسلم وليس العروج الواقعي بالجسد. الخطأ الثامن: ادعاء الجابري أن مصطلح «الإسلام» و »المسلمين» لم يطلق على المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في وقت متأخر نسبيًا من تاريخ البعثة والدعوة، وبعد أن أصبح هؤلاء المؤمنون جماعة تستسلم وتخضع لسلطة النبوة. الخطأ التاسع: إنكار الجابري لتمتع قصص القرآن الكريم بالصدق التاريخي. الانطباعات المسبقة ويأخذ عمارة على الجابري في الفصل الرابع (خطايا لا مجرد أخطاء) إنكار الجابري لعصمة الأنبياء والمرسلين حيث قال (ما نريد تأكيده هنا هو ضرورة التفكير في آيات الذكر الحكيم بعيدا عن الأفكار المسبقة، مثل فكرة العصمة التي اكتسبت طابعا مذهبيا سياسيا في الفكر الإسلامي) مع أن العصمة- بحسب رأي عمارة- هي عقيدة من كبريات عقائد الإيمان الديني، النابعة من الحكمة الإلهية في اصطفاء الأنبياء والمرسلين،... وأن الخطير- بل الأخطر- أن إنكار الجابري لعصمة الرسول، المقصد منه هو نفي عصمة القرآن الكريم عن التغيير والتبديل!! ويضيف عمارة أن الجابري رتب على نفيه لعقيدة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الادعاء بأن النبي كان ينتابه الشعور بالفشل في أداء مهمته بسبب إعراض قريش عن دعوته! الخطيئة الثانية: زعم الجابري أن «العقد الاجتماعي الذي تأسس عليه كيان الدعوة المحمدية في المدينة هو عقد حربي». الخطيئة الثالثة: ادعاء الجابري أن مصحف عثمان الذي بيد المسلمين ليس فيه كامل القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأن تدوين هذا المصحف قد حدثت به أخطاء ونسيان وتبديل وحذف ونسخ.