"مدين".. أرض الحضارات التي "غابت ثم عادت"، ومدت يدها لتتناول نصيباً من "حضارة النفط" -التي نعيشها الآن-.. فمن "مغاير شعيب" المنحوتة في جبالها؛ أصبحت اليوم مدينة عصرية هادئة تتمتع بمخططات مدنية حديثة تنعم بخدماتها، بل وتحولت آبارها -التي وقف على إحداها "موسى" في عهد "شعيب" عليهما السلام- إلى "أرض الغاز".. هكذا هي "مدين" سجّلت حضوراً ممتداً في كل عصورها بأحداث تاريخية متعاقبة عبر الأزمنة. "أرض مدين" اتفق المؤرخون المعاصرون على أنها "منطقة البدع" الآن، التي تتبع "تبوك"، وتقع إلى غربها على مسافة تقارب (220كم)، وتقع إلى الشرق من "خليج العقبة" على بعد (70كم)، وبها ما يعرف ب"مغاير شعيب" عليه السلام، حيث يُرجع أهل المنطقة سبب تسميتها ب"البدع" إلى بديع جمال الموقع وكثرة الأشجار الخضراء فيه باستمرار، كما تشتهر حالياً بالزراعة الموسمية مثل "المنجا" و"الليمون" و"البرتقال" وأنواع متعددة من الفواكه الأخرى، إلاّ أن آبار "البدع" القديمة جفت من سنوات عديدة تقريباً -على حد قول أهل المنطقة-؛ مما جعل الأهالي يحفرون آباراً بديلة. تضم «مغاير شعيب»، «مقنا»، «الخريبة»، «عينونا»، «شعيب النخلة»، «عريق اليسري»، «الجش» و"مغاير شعيب" واحة قديمة بها قبور منحوتة في الصخور ترجع إلى العصر النبطي، كما يوجد بها موقع لمدينة قديمة، وموقع آخر لمدينة من الفترة الإسلامية المبكرة يعرف باسم "الملقطة". عدة مدائن وقال" ياقوت الحموي" في (معجم البلدان): "مدين" أكبر من "تبوك"، وبها البئر التي استقى منها "موسى" عليه السلام، رأيت هذه البئر مغطاة وقد بُني عليها بيت وماء من عين تجري، وهي مدينة قوم "شعيب". وذكر العلامة "حمد الجاسر" في (المعجم الجغرافي للمملكة) أن "عبدالمجيد بن علي المنالي الزبادي الفاسي" -المتوفى سنة 1163ه، قال في رحلته: بين "مغاير شعيب" و"مدين" مسيرة نصف يوم، و"مدين" بلدة على ساحل البحر كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة، كانت قبل ذلك مدينة إلاّ أنها خربت، مبيناً أن أثر البناء باق بها إلى الآن، موضحاً أن من أشهر المواضع الأثرية فيها "مغاير شعيب"، "مقنا"، "الخريبة"، "عينونا"، مشيراً إلى أن الأودية الواقعة بين "وادي حقل" شمالاً حتى "وادي الغال" جنوباً كلها لا تخلو من الآثار. وتناول المؤرخ "المقريزي" أرض "مدين" بأنها تضم عدة مدائن قد باد أهلها وخربت، وبقي منها إلى أيامه عام 825ه نحو (40) مدينة قائمة؛ منها ما يعرف اسمها، ومنها ما قد جهل اسمها، وقال: أعلم أن مدين أمة "شعيب" هم بنو "مديان" ابن إبراهيم" عليه السلام. الوثائق التاريخية لم تستطع حتى الآن تحديد مكان بئر «موسى» التي سقى منها بنتي «شعيب» نقوش وكتابات ولم تقف أحداث هذه الأرض على صفحات التاريخ بأقلام مؤرخيها، بل تناول القرآن الكريم "مدين" في عدة سور، قال تعالى في سورة الأعراف: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، وكذلك ورد اسمها في سور"التوبة" و"هود" و"ص" و"ق" و"الحج"، إضافةً إلى سور "العنكبوت" و"الشعراء" و"الحجر". وتمتلك "البدع" العديد من الآثار والمواقع ذات الأهمية التاريخية، ومنها موقع "الملقطة"، ويتكون من تلال أثرية تمثل بقايا البلدة التي كانت مزدهرة بالواحات في الفترة الإسلامية المبكرة، ويتميز ضمن بقية المدن الإسلامية المبكرة بوجود نقوش وكتابات تزيينية، وقد عثر بالموقع على نقش يتضمن "آية الكرسي" و"سورة الإخلاص"، محفورة بخط كوفي مورق على لوح من "الرخام" الأبيض، عثر عليه في مزرعة بطرف الموقع الأثري، وربما كان مثبتاً في الأصل على جدار بأحد المنازل، أو في مكان عام، كما توجد في "البدع" بركة وساقية تعود إلى "العصر المملوكي"، وأخرى قديمة تتصل بموقع "الملقطة" الأثري يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية المبكرة، أما "البركة المملوكية" فقد بنيت على مقربة من "بئر السعيدني". «السعيدني» بئر منقورة في أصل «جبل صغير» يُنزل إليها ب«درج» إلى مستوى الماء! مواقع أثرية ووصف "الجزيري" هذا المورد وصفا دقيقاً عندما وقف عليه في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري -16م- بقوله: "والمغارة بالجبل يتحصل بها الماء من الأمطار، وكان موردها في القديم للوفد بئراً بساقية وفسقية، وبه منفذ صغير ثان من جانب الساقية، والساقية بالطوب الأحمر وبئرها واسعة المقدار، ولها حظير مبني بالآجر، وبها أيضاً بيت لخزن التبن، ومحل للسواقي، وتجاه ذلك بُني شبه مسجد بالآجر". يُجرى تطوير «حقل مدين» بهدف إمداد الغاز الطبيعي لمحطات توليد الطاقة الكهربائية وهناك مواقع أثرية أخرى لا تقل أهمية هي الأخرى عن ما ذكر في "منطقة البدع" منها؛ مواقع "العصور الحجرية"، و"مصير الخراج" الذي يقع إلى الغرب من طريق "ضباء"، وكذلك "شعيب النخلة" وهو موقع وجد على سطحه أدوات حجرية وقطع فخارية ترجع إلى أزمنة متأخرة، إضافةً إلى "عريق اليسري" ويقع إلى الشرق من "المويلح"، وتوجد على سطحه أدوات حجرية ضاربة في القدم، وكذلك "الجش" -مصيون- يقع إلى الشمال الغربي من مدينة تبوك على مسافة (190كم)، إلى جانب "المدينة النبطية" -المالحة-، وتقع على الضفة الغربية ل"وادي عفال"، حيث تتكون من تلال أثرية كبيرة تمثل بقايا منطقة سكنية ترجع إلى عصور ما قبل الإسلام، و"الرديدة" أو "متنة الرديدة" تقع على مسافة ستة كيلومترات إلى الجنوب من البدع. عمق البئر شاهد على وفرة المياه في المنطقة قديماً بئر موسى ولم تستطع الوثائق التاريخية والآراء تحديد مكان بئر "موسى" التي سقى منها بنتي "شعيب" عليه السلام، حيث يوجد بالقرب من "مغاير شعيب" بئر تسمى "بئر السعيدني"، كما يقع على بعد (25كم) من البئر ذاتها عيون نابعة إلى الآن يطلق عليها الأهالي في البدع "عيون موسى"، وتناقلها العديد من المواقع الإلكترونية، أما "السعيدني" فيقع على الضفة الشرقية ل"وادي عفال" مقابلاً لموقع "المدينة النبطية"، ويفصل بينهما الوادي، وهي عبارة عن بئر منقورة في أصل جبل صغير بالموقع، ينزل إليها بدرج إلى مستوى الماء، حفرت على نمط الآبار النبطية المعروفة في الحجر، وتعد ثاني أشهر أثر بواحة "البدع" بعد المقابر في الموقع الذي يطلق عليه "مغاير شعيب"، وطول البئر حوالي (12م) وعرضه ثلاثة أمتار، وتبعد "البركة" الرئيسة عن البئر بمسافة (30م) الى الغرب، ويبلغ طولها حوالي (35م)، وعرضها حوالي (15م)، وهي مبنية من الحجاره وعمقها حوالي مترين، وتوجد بركه أخرى تبعد عن البئر حوالي (10م) في الشمال بطول (12م) وعرض ثمانية أمتار. المزارعون لجأوا إلى حفر آبار بديلة بعد جفاف القديمة نفط وغاز ووردت "مدين" على صفحات التاريخ محتفظة بحضارتها السابقة وحكايات أمكنتها لتدلف في هذا العصر على حضارة النفط، فعلى أرض "مدين" كان أهم اكتشاف لحقول جديدة للنفط والغاز الخام، وكان العام الحالي 2013م هو عام الإنتاج. "الرياض" استطاعت أن تقف وسط "حقول الغاز" في "مدين" كأول وسيلة إعلامية تطأ أرض هذه الحقول، في حين تحفظ العاملون بالموقع على المعلومات؛ بحجة الرجوع إلى الشركة العاملة -التي لم تتجاوب معنا إدارة علاقاتها لتزويدنا بمعلومات عن كميات الغاز-، في حين ان "علي النعيمي" -وزير البترول والثروة المعدنية- سبق وقال: "منطقة تبوك والمناطق البحرية الواقعة ضمن المياه الإقليمية للمملكة تحمل دلائل ومؤشرات قوية وواضحة على احتوائها كميات كبيرة من البترول والغاز، حيث اكتشفنا الغاز بكميات تجارية في حقل مدين، وضاعفنا الاحتياطات الموجودة في هذا الحقل مؤخراً، ويجري الآن تطويره بهدف إمداد الغاز الطبيعي لمحطات توليد الطاقة الكهربائية في المنطقة، مشيراً إلى أن نتائج المسوحات "الجيولوجية" للمنطقة، ونتائج الآبار التي تم حفرها حتى الآن، والتي بدأ العمل فيها منذ أعوام قليلة، تبشر بخير كثير لمنطقة تبوك وغرب المملكة بشكل عام. تصاميم هندسية حُفرت على الصخور وحدات معالجة وبدأت تفاصيل بداية مشروع "حقل مدين" عندما طرحت شركة أرامكو السعودية مناقصة عقد الهندسة والتوريد والإنشاء (EPC) لمشروع معالجة الغاز غير المصاحب بتكلفه إجمالية تقارب (800) مليون دولار، حيث سعت من خلال هذا المشروع إلى التخفيف من استخدام النفط الخام لتوليد الكهرباء بمحطة "ضبا" وتعويضه بالغاز. ويشمل المشروع تطوير "حقل غاز مدين" لإنتاج (75 مليون قدم مكعب) من الغاز يومياً، و(4500) برميل من المكثفات يومياً على مدى (20) عاما، مع إنشاء وحدات إنتاج ومعالجة وأنابيب لنقل الغاز والمكثفات، التي غالبيتها وحدات متنقلة يمكن نقلها لحقول أخرى بعد انتهاء الإنتاج من "حقل مدين"، وهي تقنية تستخدم للمرة الأولى في المملكة. نقوش أثرية على أحد الجبال يُذكر أن إنتاج الغاز الجاف غير المصاحب للنفط سيعمل على نقلات نوعية في عدة اتجاهات، كإنتاج الطاقة الكهربائية وإنتاج البتروكيماويات، إضافةً إلى أنه سيخفف الضغط على إنتاج النفط واستخراج الغاز المصاحب له، كما أنه يسهم في توفير المزيد من كميات النفط المستخدمة محلياً في إنتاج الكهرباء وإنتاج البتروكيماويات، وهو ما سيسهم أيضاً في تعزيز صادرات النفط بشكل أفضل مما كانت عليه عندما كانت المملكة تستخرجه بمصاحبة النفط، ويجري حالياً تقديم العروض لبناء المنشآت في مدين، مع إقامة محطة معالجة بطاقة (75 مليون قدم مكعب) يومياً من الغاز، وخط أنابيب لنقله إلى محطة كهرباء في مدينة "ضباء". مغاير شعيب في مدين بقايا وأطلال إحدى المدن التاريخية في المنطقة