لا بد لقارئ الإلياذة والأوديسا لهوميروس، وخاصة، بترجمة دريني خشبة، كما أن ذلك ينطبق على الذي شاهد العديد من الأفلام التي حملت اسم أوديسيوس أو أدويسا، كأفلام ميثيولوجية، ومنها فيلم مثّلت فيه (إيرين باباس)، أن يكتشف كيف ذاته تصارع ذاته بين الأمواج من خلال مصارعة المكان والزمان والفناء، عابراً إلى طيات الغامض بأهواله، وإخفاءاته، وإظهاراته التي توشك على الحضور لكنها تظل طيّ الخيال والتأملات والاحتمالات الأكثر حكمة، وتوهجاً، واقتراباً من الضوء، وذلك بعد انتصارها الفلسفي والشعري والحلمي على الواقع المتخم باعتلالات كبرى، خارجية، منها: الحروب، الموت، الدمار، الطغيان، واعتلالات جوانية ذاتية نفسية، منها: الغرور، الغرائز، الجشع، التملك، الأنانية، والرغبة في البقاء على حساب الآخرين والحياة والموت. وربما، ومن أجل هذه الفراغات المتلاطمة، بحث (آخيل) عن الخلود، مستنفراً جُلّ طاقاته الداخلية، تابعاً بوصلة روحه التي رافقته مثل الملائكة، محتاراً بين رموز الجمال والقدر والأبدية، لكنه، ربما، نسي أن ما يبحث عنه موجود فيه كما يؤكد (ابن عربي)، وهذا البحث، لا يقل أهمية عن الدالة والدلالة المتناغمة بين النص الأصلي والنص المترجَم، الذي أمسكَ بحركاته الروحية خشبة، منجزاً عالماً ملحمياً، لا يخلو من المغامرات في البر، والبحر، والجحيم، والنعيم، ويتركنا في منعطف آخر، من النزوعات الإنسانية وذاكرتها المتثاقفة مع التفاعلات الحالمة بالكشف والإشراق وفك "شيفرات" الغموض، والانفتاح على المتشابه الاختلافاني، سواء حضر بهيئة رسالة الغفران، أو بهيئة ملحمة ترقص مع موسيقى الغياب والمجهول، على إيقاعات الصمت الغامض المخفور بأصوات (السيرانا حوريات البحر)، أو المترافق مع تأويلات مفردات الجحيم، وتحولاتها من حمراء إلى خضراء إلى بنفسجية، أو من خلال الالتفاف على اللحظة الحاضرة باللحظة الكلية للوصول إلى نقطة تصادم الأزمنة، وتصادم الذات، لتبقى الآثار أشبهَ بالصواعد والنوازل في كهف أسطوري لم يُكتشَف بعد، وأشبهَ بالصواعق حين تزلزل المخيلة مبدعها، ليتحول إلى برق ورعد ورياح وأمطار، لا يحدها خط استوائي للحلم، ولا يوقفها الربع الخالي من الموسيقى النار مائية، أو الربع الخالي من موسيقى العناصر، بل تشتد حتى ليَظُنّ الرائي بأنها الدوامات الكهرومغناطيسية وهي تبزغ من زمان هارب من الزمان، فيأتلف الرعد والبرق مع العواصف، ويسافر آخيل، ويدخل (الحصان الخدعة/ حصان طروادة)، وتظل (هيلين) منتظرة مع خيوطها ونسيجها ووفائها الرجل الذي يجوب الآفاق، والأماكن، مصارعاً (الميدوزا) وشعرها المرعب المتشكل من أفاع جهنمية، ويصارع الأمواج التي في البحار، والتي في الجحيم، ويصارع الفصول، ليحارب الطبيعة والآخر، وذاته أيضاً، دون أن يعي بأن الخلود لا تملكه (عرافة دلفي)، ولا حوريات البحر ولا الانتصار في حرب دمرت أثينا وطروادة معاً، ولم ينتبه إلى أن الخلود يكمن في ذاك السلام مع الحكمة والعقل والمخيلة ضمن نسق فلسفي، وإبداعي، يعتمد على البصيرة وأفعالها الإيجابية، ومن ناحية بعيدة للمعنى، أرى أن هناك اعتلالات أخرى، أهمها تهميش دور (المرأة)، لأن شخصية (هيلين) تمّ تحجيمها في (الجمال) والاقتتال بين الذكور على الظفر بقلبها من أجل امتلاكها كزوجة، ثم امتلاك المدينة كعرش، ولم تكن الرموز الأنثوية الأخرى أقلّ دهاء سلبياً منها، وأقلّ تحجيماً، لأن دورها الوظيفي اقتصر على الإغراء والإغواء (إلهة الجمال/ الحوريات/ إلخ)، وعلى الإرعاب والجحيم (ميدوزا)، وهي تذكّرنا، بلا شك، بملحمة (جلجامش) ودوره الذكوري هنا، لا بد من الإشارة إلى أن هناك من النساء من يتقمصن هذا الدور أيضاً في الحروب والامتلاك ومديح أفعاله الشنيعة بغنائية، كونه لم يترك أماً أو امرأة أو ابناً أو شجرة، إلى أن نصل إلى ظهور ظله الظليل (إنكيدو)، وتعرفه إلى وجوده اللا وحشي من خلال (فتاة الحانة)، وواضح توظيف المرأة واختصارها الدلالي، لتكون في حالة سلبية مستلَبة، ودور دوني، يجهل تفاصيل الحكمة، وأسرار الوجود، ولا يتقن سوى ما ائتُلف على تسميته ب (العشترة) نسبة إلى طقوس الجسد العشتارية التي كان يتم الاحتفال بها في المعابد القديمة، وما إلى ذلك من أدوار موظفة، تختصرها قصص (ألف ليلة وليلة) بالبطلة (شهرزاد)، التي لم توجد إلا لإرضاء شهريار واعتلالاته النفسية، العاطفية، وأشير، في هذا السياق، على أن شهريار هو من كتب لشهريار اعتلالاته الجوانية وأسماها شهرزاد، وأحيل هذه الإشارة إلى الباحثين للتحقق منها، كما أننا نلاحظ كيف امتلأت ذاكرتنا البشرية حتى الإشباع، بهذه الاعتلالات، التي تجزم ولا تراهن على عدم وفاء المرأة، وهي نعتٌ ناقص من منعوت مضطرب، وتجزم على تهميش المرأة بين الجسد والخدائع العاطفية والالتفافية والخدع البصرية المسقطَة سلفاً على إنسان لمجرد أنه أنثى من إنسان آخر لمجرد أنه ذكر! متاهة من التداخلات والاشتباكات والتشابكات، تحضرني، لتقول: لماذا ظلت هيلين سلبية في الملحمة والأفلام التي اعتمدت على التقنيات والفنيات الجمالية؟ ولماذا لم تعترض على ضعف وظيفتها سوى التي مثلت دور أمّ آخيل، وحَمى هيلين، فلم تتراجع عن قرارها في إغراق نفسها في البحر، رغم توسلات هيلين، ورغم تحولها إلى طيف لاحقٍ لاحقَ آخيل وهو يعبر من بوابات الجحيم، ولم تبرز الحكمة إلا مثل (ملاك) قاد (آخيل/ في الملحمة والفيلم) إلى الخروج من المآزق، ليصل متحدياً الصراع، منتصراً على الدمار، مستجمعاً ما تبعثر منه ومن الآخرين والمتلقين (قراء ومشاهدين)، ليقول: بأن الموت جزء من الخلود، والخلود جزء من الموت. وإذا ما تتبعنا هذه السياقات المتواجدة في أحد اعتلالات الوجود المختصَر بالعصر الأبوي/ البطرياركي، لوجدنا كيف امّحى عصر الأمومة، ولم يتوازَ حتى الآن ما يتكور في الإنسان (أنثى أو ذكر)، من إنسانية ترجح الكفاءة والعقل والحكمة والفعل الخلاق الهادف إلى إشعال الزمكانية بالخير والجمال والحب، بل اكتفت البشرية بما وصلت إليه من اعتلالات ظلماتية، وأضافت إليها انفصامات في الفكر، خاصة السياسي منها، حيث إننا نجد من يطأطئ الرأس لامرأة لا تعرف سوى الحروب والدمار واستلاب ثروات الدول الأخرى، وهو ذاته الذي يقتل امرأة أخرى بحجة أنها عورة! ترى، كيف نسي أمثال هؤلاء (الزبّاء) التي قتلت نفسها بيدها لا بيد عمرو من أجل أن تحافظ على وطنها، ووفائها لشعبها الذي لم تستبدله بذكرٍ أو رجلٍ أو استعمار؟ وإلى متى يرون في أمثال النساء المدمرات العابرات للقارات مثالاً لهم؟ تلميحي واضح، ولا داع لأذكر هؤلاء النساء الدراكولات، ولا الرجال الدراكوليين، الذين لم يشبعوا حتى الآن من دمائنا العربية، لكنني أحيل القراء إلى قراءة الملاحم والأساطير والقصص والتاريخ، ليستنتجوا كيف إذا ما تمّ توظيف الطاقة الإنسانية في مدارها الفاعل، الموجب، وبغض النظر عن الجنس (أنثى/ ذكر)، لوجدنا أن الطاقة الخالدة، والأبدية التي نبحث عنها، موجودة فينا، وأهمها الأخلاق، ولعل آثارها تبدو جليّة في قوله تعالى:" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".