الحكومات التي ذهبت ضحية الانقلابات الأولى بعد الاستعمار اكتشفت المجتمعات العربية أنها كانت الأكثر ديمقراطية وأمناً وعدلاً وتنامياً اقتصادياً وتنموياً. ولعل «عودة الوعي» كما قال الأديب المصري توفيق الحكيم جاءت من خلال المقارنة بين نظام وآخر، والعربي بطبيعته عفوي تغرر به وسائل الإعلام المسيّس والمؤمم، ولذلك لا يوجد مجتمع ضخّم شخصية الزعيم إلاّ المنظومة الشيوعية والعرب.. لقد انتهى نظام صدام، ولكن شخصيته قائمة حين رفع متظاهرون صوره، إذ رغم أنه دكتاتور إلا أنه كان ضابط إيقاع للوحدة العراقية وأمنها، وهو مطلب لم يتحقق في ظل الدولة القائمة التي تكاثرت في عهدها المجازر والتفجيرات، وتوزيع خارطة الوطن بين أجنحة اعتبرت الطائفة والقومية، أغلى من تراب الوطن.. بعد الربيع العربي خرجت جماعات تنادي لعودة الأنظمة التي أُطيح بها والسبب ليس حباً بتلك الزعامات، وإنما البحث عن أمن مستقر، وعودة السياحة ودورة دولاب الصناعة ومجيء الاستثمارات، وإنهاء التحالفات بين الجبهات الداخلية التي فرّقت المجتمع وأعاقت كل شيء واعتبار كل فصيل أنه صاحب الحق والحل للإشكال الشعبي، وهي وعود اعتبرها المواطن لعبة سياسية لم تحقق أي شيء من متطلباته العاجلة.. هذه المواقف طرحت جدلاً هل العرب مستعدون لقبول نظام ديمقراطي؟ وطبعاً هذا الحق ناضل من أجله العديد من الشخصيات والأحزاب وذهب ضحيته الآلاف لكن هل تعاد تجربة دول جنوب شرق آسيا التي طرحت سؤال:(هل التنمية تسبق الديمقراطية أم العكس؟) وهو الموضوع الذي طالما استشهدتُ به في هذا الحيز لأنه تجربة نجحت مع تلك الدول عندما استطاعت توفير عوامل نجاح التنمية بسابقة لم تحدث لغيرها بسرعة تطورها، لكن هذا القياس هل يصدق على دول الربيع بمعاكسة الواقع أي أن التنمية تتحقق في ظل الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صياغة القرار والسير بالانتخابات بشكل شفاف ليتحقق الاستقرار، وتعود الحياة لطبيعتها؟ الحكم المركزي الذي جاء به عسكر الانقلابات فشل، لكن هل البديل الراهن الذي أشعل الشارع العربي في دول الربيع، أوصل الحكومات إلى اتفاق على شكل الدستور والبرلمان والدولة، أم أن ما نشهده من خلافات هو من الأمور الطبيعية في حالة المرحلة الانتقالية، لكن الأزمة الاقتصادية تظل عامل حسم في الاستقرار، وهذا ما تفتقر له هذه الدول على الأقل في الحالة القائمة؟ المجتمع العربي بتكوينه الاجتماعي تقسمه الطبقية والقبلية والمذاهب والأديان وغيرها، وهذه في حال ضعف النظام تبرز كملاذ آمن يريد أن تتمتع فصيلته بمزايا عجزت الدولة عن تحقيقها، وقطعاً مخاطر هذه الخلافات حادة، وقد شهدنا حروباً أهلية في عدة دول عربية انتهت بكوارث، وبذورها لا تزال قائمة.. وقطعاً السبب الأساسي هو غياب العدالة الاجتماعية حين قُتلت الحريات وانتشر الفساد والمحسوبيات، لكن تبقى الإشكالات العربية تحتاج إلى رؤية جديدة تخرج من أزمة الرؤية القصيرة إلى الأبعاد الأخرى في تشكيل أنظمة متجانسة..