تستطيع أن تقول: إني من عشاق لندن. اسعى لأي فرصة لكي ازورها وأطل من عليائها على الأيام الخوالي. اجلس هنا واجلس هناك. في الأماكن التي تركت في قلبي كثيرا من الذكرى. مررت يوم أمس على إحدى المقاهي التي كنا نؤمها في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي. تذكرت حادثة صغيرة لا يستطيع تذكرها إلا من يحمل ثقافتي وثقافة امثالي. كنا مجموعة من الشباب. نجلس على طاولة في زاوية المدخل. من خلالها نستطيع أن نشاهد معظم الجالسين. ثمة امرأة تجلس بمحاذاتنا. بدا عليها شيء من القلق وقليل من الاضطراب. لاحظنا انها تنتظر أي فرصة لتلتفت وتلقي نظرة على رجل يجلس في آخر المقهى. التخمين البديهي أنها معجبة به. بعد قليل ألقت نظرة أخيرة على الرجل وجرعت فنجانها على عجل وألقت بردائها على كتفها ونهضت ثم غادرت المكان. نسيناها فالمكان يعج بالرجال والنساء. عدنا إلى ما كنا عليه من حديث. بعد ربع ساعة تقريبا عادت المرأة وشقت طريقها داخل المقهى حتى أصبحت قريبة من الرجل. انتحت في زاوية تستطيع من خلالها أن تلقي بحضورها في وعيه. كانت حيلة ذكية ان تخرج من المقهى ثم تعود كزبون جديد. لم تكن تدرك اننا كنا نراقبها. غلطتها الوحيدة انها امرأة جميلة. من عيوب الجمال أن يجعل صاحبه تحت أنظار الآخرين الدائمة. دعوني الآن اترك قصة تلك المرأة وأعجابها بالرجل. فمثل هذه القصة تحدث يومياً وفي كل مكان من العالم. لولا هذا الشوق لفنت البشرية. التفتنا على بعضنا وتدارسنا الأمر. كيف تحايلت لتنتقل للجلوس امام الرجل الذي تميل إليه. لم يكفنا ان نصف ما فعلته بالبراعة. بعد مداولات كثيرة وصفناها بالخبث والدهاء. كلمتا الخبث والذكاء ليست من اختراعنا. هكذا تكشفت لي الحقيقة بعد يومين أو ثلاثة من التفكير والتأمل. الحيلة التي قامت بها تلك المرأة يدبرها الرجال يومياً. لماذا لا نصف الرجال بالخبث والدهاء في مثل هذه الحالات؟ هاتان الكلمتان اكبر من ان تصف امرأة تخترع حيلة لتكون بالقرب من الرجل الذي يعجبها. تلك الكلمتان تدلان على التخطيط القائم على سوء الطوية والرغبة في إنزال الأذى، عندما يقوم رجل بحيلة ليتقرب بها من امرأة ستجدنا نضحك ونردد بكل حبور (الملعون ذكي) (دبر اموره). لماذا وصفنا المرأة بالخبث والدهاء؟ في واقع الامر لم نصف تلك المرأة بالخبث والدهاء بمحض ارادتنا. مخزوننا الثقافي هو الذي دلنا على هذه الكلمة وفرضها على تلك الحادثة. اكتشفت في نهاية الحوار اننا لم نحصر الوصف على تلك المرأة (بالتحديد) على أساس انه هي التي كانت في غاية الخبث والدهاء وإنما عممنا الأمر على جنس المرأة ككل. حيلة تافهة وبسيطة قامت بها امرأة واحدة تم طبخها بسرعة لتصبح جريمة ارتكبها جنس النساء كله. ما قمنا به هو استدعاء لمخزوننا من العداء الموروث للأنثى لنزوده بمثال حي بعد أن رفعنا حيلة بسيطة إلى مستوى التآمر، فالمرأة مدانة بأقصى انواع الاتهام في كل مرة تستخدم فيه عقلها.