د. اليامي : الفساد والإرهاب.. وجهان لعملة واحدة    المهندس المشيطي يفتتح معرض الريف السعودي الأول    نائب وزير البيئة يؤكد أهمية الشراكات مع القطاع غير الربحي    إصابة 34 شخصاً إثر زلزال قوي ضرب شمال شرق اليابان بقوة 7.6 درجات    بسبب خروقات الاحتلال.. استشهاد 386 فلسطينيا في غزة    ولي العهد والرئيس السوري يبحثان جهود ترسيخ الأمن والتعافي الاقتصادي بسوريا    بحضور مدير مكتب التعليم الخاص بتعليم عسير. مدارس نهج العالمية تختتم بطولة المدارس العالمية لكرة القدم"    أمير منطقة تبوك يكرم الفائزين بجائزة "تبوك للعمل التطوعي" في دورتها الثانية    مستشفى عسير المركزي يفعل عدد من الفعاليات التوعوية    الأبيض يرافق النشامى    ترامب يدعو أوكرانيا إلى إجراء انتخابات    رئيس لجنة النقل بغرفة الأحساء: القطار الكهربائي بين المملكة وقطر خطوة استراتيجية تنموية كبيرة    ألونسو تحت الضغط لكنه متفائل قبل مواجهة مانشستر سيتي    القبض على مواطنين بتبوك لترويج الحشيش وأقراص خاضعة للتداول الطبي    أمطار الرحمة تعانق المسجد النبوي    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ اتفاق بكين    أمير جازان يكرّم الطالبة لانا أبوطالب لتحقيقها الميدالية الذهبية في معرض سيئول للاختراعات 2025    الشورى السعودي يوقع مذكرة تفاهم مع نظيره القطري    ولي العهد يفتتح مرافق قاعدة الملك سلمان الجوية    فيصل بن مشعل يستقبل مالك نادي الخلود بالرس    الجامعة العربية تدين اقتحام القوات الإسرائيلية مقر "الأونروا" بالقدس الشرقية    القادسية يفكر في لاعب فلامنغو    رصد أكثر من 10 آلاف طائر مائي في محمية جزر فرسان    شمال جدة يسجل أعلى هطول أمطار في السعودية خلال 5 ساعات    أمانة جدة تباشر جهودها الميدانية للتعامل مع الحالة المطرية    انطلاق ملتقى هيئات التطوير تحت شعار «نخطط مدن لمستقبل مزدهر»    وزارة الثقافة توقع مذكرة تفاهم مع مركز الملك فيصل لتعزيز التعاون العلمي والثقافي    صحفيو مكة يستضيفون عبدالعزيز خوجة في لقاء عن الصحافة السعودية    توسع شركة الفنار للمشاريع عالميا بافتتاح مكاتب جديدة في الصين والمملكة المتحدة    حي حراء الثقافي يعزّز التجربة السياحية    تعليم الطائف يُطلق حملة 10KSA الدولية    أمطار على منطقة القصيم    الرعاية المنزلية: خدمة إنسانية تقلل عبء المستشفيات    حماس منفتحة على مناقشة تجميد السلاح.. إسرائيل تضع حدوداً جديدة لغزة ب«خط أصفر»    متحدث الجوازات: تفعيل الجواز شرط للسفر بالهوية الوطنية بعد التجديد.. ولا يشمل الإصدار لأول مرة    تمطيط    هل ينشر الإنترنت الجهل؟    منتخب عمان يتغلب على جزر القمر ويودع كأس العرب    برعاية وزير الرياضة| انطلاق بطولة مهد الدولية للقارات في نسختها الثانية    تركها زوجها وحيدة .. أسترالية تموت «متجمدة»    القوات الخاصة للأمن البيئي تشارك في معرض (واحة الأمن) بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل ال (10) بالصياهد    الرسالة الأهم.. أنت تختلف عنهم    ماجدة زكي تبدأ تصوير رأس الأفعى    «مندوب الليل» يجسد أحلام الطبقة الشعبية    «الشمالية».. محطة الطيور المهاجرة    4.8 % نمو الناتج المحلي    إطلاق «هداية ثون» لتطوير الخدمات الرقمية بالحرمين    موجز    إطلاق 37 كائناً فطرياً في «محمية الحجر»    الميكروبات المقاومة للعلاج (3)    إحالة منشأة إلى النيابة لبيعها أجهزة طبية مخالفة    "التخصصي" يتوّج بثلاث جوائز    الاجتماع الأول للجنة الصحة المدرسية لمناقشة مهامها ضمن إطار انضمام محافظة بيش لبرنامج المدن الصحية    الرياض أول مدينة سعودية تنضم رسميًا إلى شبكة المدن العالمية    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الذوق العام    ⁨الإسلام دين السلام لا إرهاب وعنف⁩    لا تلوموني في هواها    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع المعرفة.. الوقت والصبر!
نشر في الرياض يوم 27 - 12 - 2012

كان فلوبير، مؤلف الرائعة الشهيرة «مدام بوفاري»، ينصح موباسان، أفضل قصاصي القرن التاسع عشر، بالصبر، ويعنفه عند نفاد صبره قائلاً: «أنت قاص رائع، فتعلم كيف تلجم نفاد صبرك!» ذلك ان فلوبير، الذي كان يكتب بتأن، وله أعمال روائية قليلة، كان معروفاً بصبره الطويل، وكان يجمع، في ذاته الابداعية، بين المعرفة والوقت والصبر، مشكلاً مع بلزاك وستاندال، ثلاثياً، أعطى القرن التاسع عشر أفضل الروايات، وبهذا الثلاثي عرف هذا القرن، واشتهر أدبياً، وقد تفوّق الثلاثة في كتابة الرواية، بفضل تخصصهم بها.
صحيح، كما قلت سابقاً، ان هناك أدباء عظاماً، في العربية وسائر اللغات، عملوا على عدة أجناس أدبية متشابهة، مثل الرواية والمسرحية، أو الرواية والقصة القصيرة، أو مثل المقالة والقصة، لكنهم، جميعاً، أو معظمهم على الأقل، اشتهروا بجنس أدبي، واحد، اعطوه جهدهم، معرفتهم، ووقتهم وصبرهم، وكانت الأجناس الأدبية الأخرى، بالنسبة إليهم، عارضة، أو مساعدة في التعبير عن ذواتهم الابداعية.
وإذا ما تكلمت على تجربتي الروائية، فإنني ملت، منذ البداية، إلى العمل في جنس أدبي واحد هو الرواية، وسأبقى كذلك مادمت قادراً على الكتابة، لأن الرواية، التي انقطعت إليها منذ العام 1945، أي قبل ما يزيد على نصف قرن، بخلاف الأجناس الأدبية الأخرى، تحتاج إلى ثلاثة أشياء:المعرفة، والوقت، والصبر، المعرفة كثقافة واسعة، ذات كنز يزداد ولا ينقص، وشرطها المتابعة الدائمة، والوقت لاكتساب التجربة، الحياتية والنظرية، أي التجرية التي تتحقق من العيش بين الناس، والتجربة التي تتحصل من مطالعة الكتب، مع كل ما في التجربتين من معاناة، ليكون الروائي ذا ثقافة شمولية، والصبر الواجب في الحالتين، حالة اكتساب التجربة وحالة تأديتها فنياً، ومن هنا فإن الرواية التي هي عالم قائم بذاته، ومتجدد بذاته، تحتاج إلى حياة كاملة، قائمة بذاتها، تهدم البناء القديم، وتبنى معماراً هندسياً جديداً، وفق التصور الحدثي، الذي غايته الاستئناف ضد ما هو راهن، في سبيل الوصول إلى ما هو مستقبلي، في النظرة والفعل، وبشكل مستمر.
بعيد عن ذهني، بل مرفوض القول، إن الأجناس الأدبية الأخرى لا تحتاج إلى التخصص، وإلى المعرفة الشاملة، قدر الامكان، مع هذا التخصص. لنأخذ الشاعر ناظم حكمت مثلاً، فقد تخصص، واشتهر بالشعر، مع أنه كان يرسم، وكان يكتب الرواية أحياناً، ومع ذلك استشعر جهلاً حقيقياً، هو الذي كان يقرأ، كما جاء في رسائله إلى كمال طاهر، خمسة عشر كتاباً في الشهر الواحد، على مدى سجنه الطويل، الذي دام عشرين عاماً دفعة واحدة.
لقد كتب ناظم حكمت إلى صديقه كمال، السجين الآخر في القضية نفسها، وهي تحريض رجال الأسطول التركي، وكان هذا تهمة ملفقة، كتب في العام 1947 يقول: ذعرت من جهلي الضخم، وكدت ابكي من الغضب الشديد. لقد فهمت، الآن، إلى أي حد كنت جاهلاً.. ليس لدي عن الطبيعة إلا معلومات عامة فلسفية، فمعلوماتي عن النباتات والحيوانات والمعادن والفيزيولوجيا والفيزياء والكيمياء، ومجموعة أخرى من الأشياء، لا تتجاوز معلومات الهمجي.. انني أعرف القوانين العامة الجدلية لهذه الطبيعة التي تدهشني، والتي أحبها بعمق، لكنني لا أعرف شيئاً عن القوانين المادية؟ والحياة الحقيقية لهذه الطبيعة.. كيف تجرأت ان اكتب القصائد دون أن أعرف جيداً، وبعمق، الطبيعة والناس؟ ان ما يجب ان أفعله الآن هو ألا أترك عزيمتي للفتور، وان أطلب كمية كبيرة من الكتب، وأحاول ان أثقف نفسي قليلاً، أثقفها قبل ان اكتب أية قصيدة جديدة».
هذا النص الاعترافي، قد كان للعمل وليس لغسل الوجدان، ثم العودة إلى الكسل من جديد. ناظم قال وفعل، لادراكه ان جميع الأجناس الأدبية، تحتاج إلى معرفة دقيقة معمقة، فإذا كانت الحال هذه، تتعلق بالشعر، وهو، كما هو معروف، انخطاف مع الومضة الشعورية واللاشعورية في آن، فكيف الحال مع الرواية؟ هذه التي تحتاج إلى التجربة، الخبرة، المعاناة اللاقصدية، فن البناء المعماري، وفوق كل ذلك إلى اطلاع واسع على أشياء الوجود: الكون والحياة معاً!؟
إن الرواية، في كل مدارسها، ما قبل الحداثوية وما بعدها، تحتاج، أكثر من غيرها بكثير، إلى المعرفة الشاملة، إلى التجارب وممارسات عديدة ومتنوعة، إلى «دولاب محفوظات» كما يقول تشيكوف، الذي جرب القصة القصيرة فكان بها معلماً لاحد لمعلميته، وكتب الرواية بنجاح، إلا انه تخصص في القصة، وامتلك لأجلها المعرفة والوقت والصبر.
«دولاب محفوظات» تشيكوف لم يكن للزينة، أو الادعائية الفارغة، كان، كما قال، دولاب محفوظات نضع فيه كل أصناف المعلبات إلى وقت الحاجة والضرورة، ولا يقتصر على أيام الشباب، أو على المعرفة المقصورة على حيّ أو بلد، أي البيئة التي نعيش فيها وحدها، إنما نحتاج إلى معرفة البيئات الأخرى، الأحياء والمدن الأخرى، ومعرفة الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع، وقبل ذلك معرفة جيدة بالتراث، وقراءات دائمة، متأنية، واعية، في الرواية العربية والعالمية، منذ نشوء الرواية وإلى يومنا الذي نكتب فيه كل رواية جديدة، كي يقف الروائي على كل جديد، كل مبتكر، كل مستحدث، في فن الرواية، بما يواكب العصر الذي نحن فيه، والأيام التي نشتغل فيها على رواية ذات حدث ومدلول، مع الالمام بكيفية تناول الحدث، والقضايا التي يطرحها، وصور الناس المنعكسة فيها.
هاجس المغامرة، التجربة، المعاناة، يسكنني بلا انقطاع، فقد شغفت بمعاينة الأشياء، ملاحظتها، تقليب أحجارها على كل الوجوه، لمعرفة الظاهر والمستتر، ثم التطواف في الشوارع الخلفية للمدن، في الأزقة والأحياء الشعبية، واتقان البحث في قيعان هذه المدن، والاطلاع على نماذج الناس، وما لديهم من عادات، تقاليد، لهجات، فوارق في النظر إلى الأمور الراهنة، كيفية تقبلها، بيأس أم رجاء، بنقد أم تقبل باستسلام للراهن منها، وبعد التعرف إلى المدن والبلدات، التعرف إلى ضواحيها، والسفر بحقيبة أو دونها، بغية العمل أم لغاية التشرد، ركوب السيارات، والشاحنات، والقطارات، والطائرات، والسفن، الابحار دون خوف، السباحة نحو اللجج، وخلال العواصف، دون إلقاء النفس في التهلكة، ودون الخوف من التهلكة بقدر المستطاع.
قد تقولون: هذا ينطبق عليك! وأجيبكم: ينطبق عليكم أيضاً!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.