لا يوجد أسوأ ممن يختلق أساليب وطرقاً ملتوية للتحايل، والتآمر، والنصب.. أشخاص أعماهم الجشع، والطمع، وسيطرت عليهم الأنانية، واللامبالاة، مستسلمين بذلك لرغبة التملك، وشهوة الغنى والسلطة، أخمدوا ضمائرهم، واتسعت ذممهم مقابل تلك المكاسب التي تضخ في أرصدتهم، كي ترضي نفوسهم الدنيئة التي لا تعرف حداً للرضا والشبع إلاّ على حساب إفلاسهم الديني والأخلاقي، اللافت للنظر أنّ بعض هذه الفئات التي تساوى أمامها الحلال بالحرام يبحثون عن مبررات ومسميات يقتنعون من خلالها أنّ "من له حيلة فليحتل"، لأنّ "القانون لا يحمي المغفلين"! الغاية الشريفة لا تبرر الوسائل التي ترفضها القيم والمبادئ.. والقانون يجب أن يحمي المغفلين استحلال المحرمات! وقال "د. عبدالرحمن العطوي" -عضو اللجنة الأمنية بمجلس الشورى-: "وقع البعض في استحلال المحرمات في شرع الله، سواءً أكان ذلك فيما يخص المحرمات الاعتقادية، أو القولية، أو الفعلية، أو العملية، وتشمل فعل الممنوعات وترك المأمورات للأسف، وحال تلك الفئة محزن ومخز"، لافتاً إلى أنّ قاعدتهم "الغاية تبرر الوسيلة"؛ فما يشبع الشهوة ويحقق الهدف الذي يريدونه لا يترددون في فعله، مهما كان أثره وخطره على الدين والفرد والمجتمع والوطن، دينياً واجتماعياً، واقتصادياً، وأمنياً، وحضارياً، ولذلك لا يتردد أحدهم أن يحتال، وينصب، ويرشي، ويرتشي، ويزور، ويغش، ويدلس، ويسرق، وينهب، ويسلب، وينم، ويغتاب، ويبهت، ويقتل، ويسجن، ويحلف كذباً، ويشهد الزور، ويقذف، ويمكر، ويخون، وباختصار يفعل كل ما يوصله له مراده ومطلبه، ويبرر ذلك تارة بالضرورة التي تبيح المحظور والمحذور، وتارة أنّ المسألة فيها خلاف بين الفقهاء والعلماء، وتارة أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ومن سبق إلى مباح فهو أولى به! وأضاف: "من لا يعرفون الحرام هم أغلب من يقع في استحلال المحرمات، إما أن يكونوا تحت تأثير شهوة المال، أو المتعة الحرام، أو الشهرة وحب الظهور، أو الكيد، والحسد، والانتقام، أو الطمع والجشع، والاستغلال، وأحياناً يكونون تحت تأثير الشبهات بسبب استفتاء جاهل، أو فاسق ومبتدع، وأحياناً بسبب الانهزامية وضعف اليقين والإيمان بما جاء من رب العالمين، وأحياناً بسبب الاغترار بالغرب أو الشرق وأنّ ما هم عليه هو الحق أو الأفضل والأصح والأجمل، وأحياناً بسبب التساهل في تطبيق أحكام الشرع الحنيف". وأشار إلى ضرورة مواجهة هذه الفئة التي استحلت المحرمات تحت تأثير تلك المسوغات والمبررات، فأكلت بالحرام المال الخاص والعام، وأباحت لأنفسها عورات الآخرين وحرماتهم ظلماً وعدوانا وطغياناً وحسداً وجشعاً وطمعاً، ولا بد من وقفة الجميع ضد هذا الفئة المنحرفة التي جانبت الصواب عن المجتمع وفئاته ومؤسساته، فهذه الفئة من أشد أنواع الأعداء وأخطرها على مصالح المجتمعات، مؤكداً أنّ الوقاية خير من العلاج وأنّ علاج المرض الاجتماعي عند أول ظهوره فيه حماية للجميع من شروره. تبرير سلب المال العام أشد قبحاً من سرقته غياب الرقيب! وتعجّب "د. صالح بن عبدالله الدبل" -عضو هيئة التدريس في كلية الملك فهد الأمنية- ممن تصدر منهم سلوكيات لا تتفق مع الالتزام بتعاليم الإسلام، وتحديداً حين يقعون في محظور التعامل مع الآخرين وأولهم أسرهم؛ فيكثر الخلط بين القسوة في معاملة الزوجة وبين القوامة الشرعية للرجل، ويكثر الخلط بين مسألة تعدد الزوجات وضرورة العدل بينهم، وقسوة الأب على أطفاله من باب التربية والتأديب، موضحاً أنّه يمكن وصف هذه الحالة على أنّها "ازدواجية ممقوتة"، وقد يكون من دوافع ذلك التربية من الطفولة لهؤلاء، حيث تم تربيتهم على الخوف الشديد من المخالفات دون القناعات، فهو يؤمر بعدم فعل السلوكيات المشينة دون إبداء الأسباب المقنعة لذلك، فمثلاً عندما يؤمر بعدم التدخين لا يتم الأمر من قناعة بأضرار التدخين، فينشأ الفتى تحت ضغوط أسرية تطالبه بالاستقامة دون أن يكون هناك انفتاح فكري بين الناشئ ومربيه، وتتطور الحالة عند هذا الفرد، وعند غياب الرقيب ينفلت الفرد من أول وهلة. د. عبدالرحمن العطوي مبررات عقلية وأوضح "د. الدبل" أنّ نظرية التبريرات العقلية مرتبطة بالسلوكيات التي تتصف بالازدواجية؛ إذ لا يرتكب الفرد السلوك المخالف أو الانحراف إلاّ في حال كانت لدية تفسيرات وتبريرات عقلية لهذا السلوك، فهو يختلس لأنّه يظن أنّ له حقاً في هذا المال المختلس بسبب عمله الدؤوب والشاق، والذي لا يحصل على تقدير من رؤسائه، وقد يبرر لنفسه الاختلاس ويدافع عن هذا المبدأ أمام نفسه وأمام الآخرين، ومن أمثلتها مسائل النصب والاحتيال التي تكثر أحياناً في المجتمع، فتعطى مبررات أنّ ذلك من مهارات التجارة وأنّ "القانون لا يحمي المغفلين". د. صالح الدبل إيقاع العقوبات ونوّه "د. الدبل" أنّ حل هذه المشكلة يكمن في "نظرية الردع"، التي تستند إلى أساس أنّ الفرد يعرف مسبقاً من الناحية الذهنية ماذا سيحدث له لو وقع في يد العدالة بعد اقترافه عملاً مخالفاً أو إجرامياً، فإذا غلب على ظنه أنّه لن يحاسب أو أنّه لن يعاقب أو أنّه سيخرج من القضية؛ فإنه لن يتردد في ارتكاب المزيد من المخالفات والجرائم، وإذا ساد بين أفراد المجتمع أنّ بعض السلوكيات عادية، كتسمية الرشوة ب "العمولة" أو "الإكرامية"، وأن محاباة الأقارب في الوظائف والقضايا من صلة الرحم، وأنّ تقديم من لا يستحق في الوظائف وإبعاد من يستحق قائم على التزكية كمفهوم الواسطة الإيجابية، فإنّ هذه الأفكار إذا انتشرت في المجتمع تجعل حتى بعض من يدافعون عن القيم يمارسون ذات السلوك دون تردد، ومن هنا يمكن أن يستفاد من نظرية الردع في تفعيل قوة النظام للمخالفين والحزم في تطبيق الأنظمة على الجميع دون استثناء، حتى يعتقد عامة الناس أنّ من وقعت منه المخالفات والجرائم سيحاسب بغض النظر عن الصفة التي يحملها. د. أحمد عسيري منفعة آنية ولفت "د. أحمد عسيري" -باحث في علم الجريمة- قائلاً: "عندما نتحدث عن الحلال والحرام من منطلق نظري وتطبيقي؛ فإنما نعرض لما قد حُسم بنصوص شرعية قرآنية ونبوية وما تلاها مما اصطلح عليه بالقياس، وبالتالي أوجدت الحدود والتعزير كعقوبة ردع، ووسيلة لغرض الامتثال للأوامر والنواهي لغاية أسمى وهي السعادة الحقة بالفوز برضاه سبحانه، وإقرار الحقوق وتنظيم المجتمع المسلم لما فيه خير الجميع، ولا شك أنّه منذ الأزل والخير والشر في صراع محتدم، وهو ما يظهر الحكمة الإلهية في مبدأ الثواب والعقاب، مبيّناً أنّ تغليب المنفعة الآنية لدى الإنسان جعل البعض يتجاوز مفهوم بعض المسلمات ليصيغ مفاهيم تتفق ورؤيته للأشخاص والأشياء من زاوية ضيقة تنحصر في المصالح الخاصة التي تجعله يقيس الأمور بمقياسه متناسياً لما للآخرين من حقوق تهدر وأضرار بالغة تقع جراء أنانية مفرطة أعمته عن كل حقيقة. قطع أرزاق وأكّد "د. عسيري" أنّ المجتمع يلحظ اليوم تنامياً في قضايا ومواضيع لم تكن لولا الغفلة المصاحبة لها، فنرى المتذاكي الذي يتلاعب بمصالح غيره تحت مبرر الشطارة وتوظيف أمثال وأقوال ناضبة تعزز توجهه، وتجعل منه بطلاً واهماً لا يعيش إلاّ على حقوق مسلوبة، وحاله حال من يرى المال العام مغنماً ومكسباً شخصياً واجب الأداء، وذاك المداهن الذي لا يتوانى عن تغيير رأيه وفق الموقف الذي يدر عليه ربحاً، وهناك الانتهازي الذي يرى في تعطيل مصالح العباد ما يوجب الابتزاز والمساومة لمصلحة بديلة يفلسفها كأمر مشروع يثاب عليه لقاء سعيه، مشيراً إلى أنّ مثل هذه الممارسات ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالتحولات الاجتماعية التي هي نتيجة المتغيرات الاقتصادية والثقافية، والكم الهائل من الفضاءات المفتوحة التي لا تعترف بمحدودية المكان، إلى جانب مؤثرات أخرى كالإعلام الموجه لخلخلة المنظومة القيمية المجتمعية، التي أوجدت ما يشبه ثقافة مزدوجة على حساب المخزون الأساس والمتواتر؛ مما أفرز قيماً مغايرة تمثلت بسلوكيات سلبية غير معهودة، مما يفسر تزايدها كون بعضها خارج التشريع المفتعل والمعني بها "الجرائم المستحدثة"؛ كالتعدي على الحقوق المعلوماتية بالنسخ غير المشروع والمتاجرة بها، ويماثل ذلك الاتجار بما يجلب الضرر أو الخطر للأرواح والممتلكات كقطع الغيار المقلدة، والأدوات الكهربائية المضروبة، ومعرفة ذلك مسبقاً من قبل أصحابها وفي غفلة عن مسؤولي هذا الجانب أو تمرير مفهوم خاطئ عن "عدم قطع الأرزاق"، الذي هو في واقعه "قطع أعناق" لضحايا مغرر بهم. الوازع الديني واقترح "د. عسيري" أن يتم توظيف الخبرات ضمن لجان الإعداد والمراجعة والتدقيق في إحداث تكامل بين النصوص القانونية للحول دون تكرر مثل تلك الجرائم، مشدداً على أهمية أنّ لا يتم إهمال عامل الإسقاط النفسي للممارس، الذي غالباً ما يرى فيما يحققه من أضرار بالآخرين إنما هو بمثابة انتصار يحققه على المجتمع الذي فشل فيه كفرد ويبحث عن تحقيق ذاته كتعويض عن عدم قدرته على التكيف بالطرق السوية لاستعادة توازنه النفسي، كما أنّ بعض الأعراف والتقاليد التي لا ينكر وجودها لها أثرها في نشوء ثقافة مجتمعية حرمت الأنثى من حق شرعي بائن في ارثها وتحت طائلة مبررات ذهاب الأرض والمال إلى الغريب، ويقصد به من تقترن به من خارج مجتمع الأسرة، وهنا تقع أهمية التثقيف وتحفيز الوازع الديني والتذكير بالحقوق ودرء الظلم وهو من أولويات الحقوق التي حثت عليها وحمتها الشريعة.