فتح نافذة السيارة، تنفس ملء رئتيه، مرت ساعة وهو قابع بنفس المكان،فيما لايزال الشارع مزدحماً بالمارة والسيارات، حاول الاسترخاء وعدم التفكير في وقت عودته يردد بداخله: لن يتأخر. أخذ يراقب المارة، يدقق في ملامحهم وتعابير وجوههم المختلفة، يحدث نفسه كل واحد منهم لديه ركاما من هشيم الأحلام كما لديه. يشعر بالخجل كلما تلاقت عيناه بعيني أحدهم، فيهرب بعيداً حيث لاشيء إلا التعب.. والقرف ! يعود إلى داخله، إلى همومه الصغيرة كما يحلو له أن يسميها في لحظات أنسه، يشعر بوخز تلك الهموم وثقلها عليه. سنوات تمر متشابهة، تقذفه كل ساعة لأخرى،ويقلبه كل يوم لتوأمه وهو متشبث بهذا المقود اللعين.. كل صباح.. وكل مساء، يحرث شوارع هذه المدينة من شمالها إلى جنوبها.. ومن شرقها إلى غربها، باحثاً خلف الجيوبؤال. أصبح يحفظ هذه المدينة كباطن كفه، يتقلب بشوارع مترفيها عندما يسعده الحظ بزبون مترف.. أو يتقاطع نصيبه مع سائح كريم.. يرتبط معه بزيارات لأرجاء المدينة.. وأحياناً المدن الصغيرة المجاورة .. عندها تكون الفنادق الفخمة مشرعة أمامه، والوجبات التي يراها في منتهى البذخ معروضة بين يديه، يهتم أيامها بسيارته كثيراً، فهي مصدر رزقه الوحيد وأي خلل ولو بسيط قد يفقده زبوناً مهماً. وعندما ينتهي هذا الموسم الذهبي، وتبدأ غلته في النقصان،تنطفئ تلك الإشراقة في وجهه وتعود خارطة رحلاته لأحياء يضربها بعجلات سيارته فتعود لتنفض الغبار والفقر فوق رأسه. يغلق النافذة بيأس. ويزداد التصاقاً بالمقعد، ينظر بتوتر إلى الساعة، يقطب بين حاجبيه لقد تأخر كثيراً. بدأ النعاس يداهمه، فيما أخذ مرتادو أسواق هذا الشارع ينسلون في الطرقات الفرعية بهدوء. القليل من المارة وواجهات بعض المحلات المضيئة هي كل ماتبقى من صخب هذا المكان. استسلم لخدر لذيذ، ممنياً نفسه بالباص الذي تأخر عن موعده كثيراً، عله يحظى براكب كريم ينفحه مبلغاً من المال.. لقاء توصيلة قريبة، فقد تعلم أنه كلما تأخر الباص ليلاً.. فسيكون مجال الدفع المضاعف أكثر، فالخيارات وقتها أمام الراكب قليلة. مضت فترة طويلة قبل أن يستيقظ على طرقات قوية على زجاج النافذة، استيقظ مرعوباً فقد أتت هذه الطرقات مع حلم مفزع فاختلط الأمر عليه. كان شرطي الحراسة الليلي، ينظر إليه من خلال الزجاج وبيده قدح من الشاي الساخن، لايدري لماذا.. أهمل وجه شرطي الحراسة وأخذ يحدق لبرهة بكوب الشاي..! لم يكن الأمر يحتاج لكثير عناء ليعرف أنه قد نام طويلاً وأنه قد فوت الباص وزبائنه المفترضين.. المطر يتساقط، والشوارع تعيش صمت الليل.. وهو يفكر خلف مقود سيارته بثمن الشاي الذي ارتفع !