يندر أن يتحقق المستقبل بما يتفق مع التوقعات. تخيل معي على سبيل المثال مجموعتين من التنبؤات الاقتصادية لنصف القرن الذي بدأ عام 1962. المجموعة الأولى بعنوان "الدليل الأعمى" كتبت بما تيسر لكاتبها من معرفة متاحة في ذلك الوقت. أما الثانية بعنوان "دليل التبصر في الماضي" فقائمة على معرفة ما حدث على أرض الواقع. كانت أكبر القضايا الاقتصادية قبل نصف قرن من الزمان هي معركة النظم الاقتصادية أي الشيوعية مقابل الرأسمالية. وكان الدليل الاعمى سيتنبأ بتنافس شديد بينهما في عام 2012. حقا إن الدول الشيوعية كانت تتخلف بالفعل من الناحية الاقتصادية عن أوروبا لكن القهر السياسي سيبقي النظم القائمة في وضع حصين. بالاضافة إلى ذلك كان كثير من الخبراء الغربيين يعتقدون قبل 50 عاما أن المساواة الاجتماعية والتنظيم المركزي في الشيوعية كان يتيح للدول الفقيرة أفضل أمل للنمو الاقتصادي السريع. وفي المجلد الثاني "دليل التبصر في الماضي" سيحتل الانهيار الذليل الذي شهدته الشيوعية مكانا بارزا في التوقعات المستقبلية. فالانزلاق سيكون بطيئا لكن الناس ستتحرر حتما من أوهامها فيما يتعلق بعجز النظام وعدم أهليته ومراءاته وقسوته. لقد سادت في نهاية الأمر إرادة الشعوب. تأتي بعد ذلك محنة تعساء الارض إذا استعرنا عنوان كتاب فرانتز فانون الذي صدر عام 1961 بالانجليزية عن مجتمعات ما بعد العهد الاستعماري. فبالرغم من أن الثورة الخضراء الوليدة كانت مشجعة فإن التنبؤات العمياء كانت سترسم صورة نصف قرن آخر من البؤس. وبينما كانت السياسات والممارسات التي يمكن أن تقضي على الفقر المدقع مفهومة إلى حد كبير فقد كان الأمر يتطلب أجيالا كثيرة للتغلب على آثار القهر الاستعماري ونشر الثقافة الصناعية. وخلال تلك الفترة ستحدث اضطرابات اجتماعية وحروب عديدة وتقوم نظم حكم قمعية متحصنة. ولم تتحقق الرؤية على هذا الوجه. فبينما تصور التوقعات المتبصرة بحقائق الماضي فقراً مفجعاً في عام 2012 وبعض الحروب المخيفة مثل فيتنام والعراق وإيران والكونجو خلال تلك الفترة فإنها تتنبأ أيضا بتحسينات كبيرة في مستويات المعيشة في أغلب الدول الفقيرة. فنصيب الدول الفقيرة من استهلاك النفط العالمي يرتفع من الربع إلى النصف بينما تزيد نسبة تعليم الصغار حتى المرحلة الثانوية لاكثر من المثلين. وتصبح الدكتاتوريات أكثر ندرة وأقل شعورا بالأمان. كان الدليل الأعمى سيخصص مكانا بارزا للكوارث المتوقعة مما كان بول ايرليخ سيطلق عليه بعد قليل "القنبلة السكانية". أما الدليل الآخر فلا يرى مشكلة في ذلك. فالعالم كان على مشارف التمتع بمزيج لم يسبق له مثيل من زيادة في الرخاء وتقلص في حجم الأسرة. وبحلول عام 2012 لم يعد مبعث القلق الرئيسي في المسألة السكانية كثرة عدد الناس بل السرعة التي تتزايد بها أعداد كبار السن وتراجع قوى اقتصادية رائدة مثل اليابان والمانيا. وأخيرا كانت الرؤية العمياء في عام 1962 واضحة. فأوروبا كانت تمثل مشكلة. ربما تتمكن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي من تفادي صراع شامل في الاراضي الاوروبية لكن الرفض الفرنسي المنتظر للطلب الذي تقدمت به بريطانيا للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الاوروبية (وهو ما حدث عام 1963) كان نذير شؤم بما قد يحدث بعد ذلك. ومع ذلك فالرؤية المتبصرة تصور أوروبا وهي تتطلع إلى أهدأ خمسة عقود في تاريخها وأكثرها رخاء بكل تأكيد. كانت التقديرات الاقتصادية الشائعة في عام 1962 خاطئة في أغلبها. ولحسن الحظ كانت الاخطاء إلى حد كبير في الافراط في التشاؤم. فماذا عن نصف القرن المقبل؟ من اللطيف أن نتنبأ بمزيد من الاخبار الطيبة في مجملها لكن هذا التفاؤل قد ينقلب إلى الضد. أخشى أن أتنبأ بالرخاء فأجد المصائب. ومع ذلك يجب ألا يخشى الصحفيون والاقتصاديون أن يظهروا بمظهر الحمقى وخاصة بعد وفاتهم. ولهذا سأغامر بنبوءة جريئة: بحلول عام 2062 سيكون عالم المال كما نعرفه قد اختفى كليا. ربما يستغرق الامر بضعة عقود وبضع أزمات أخرى لكنني أعتقد أن الساسة والاقتصاديين سيدركون في نهاية المطاف أن السماح بالجشع في النظام المالي أشبه بالسماح للثعالب بالدخول إلى حظائر الدجاج. ستتضح حقيقة الجشع المالي الذي يتبين في الرغبة في الحصول على عوائد كبيرة لا مبرر لها من الاستثمارات في الاسهم والسندات والعقارات وسيرى الناس أن الجشع المالي عقبة في سبيل التقدم الاقتصادي. فهذه الفكرة ثورية على الاقل بقدر ما كانت فكرة أن أوروبا ستظل مسالمة فكرة ثورية. وستدفع بصانعي القرار لتقرير أن النظام الحالي غير صالح للغرض منه. فالنظرة النقدية لكل جوانب عالم المال من ديون ذات آجال استحقاق وأسعار فائدة ثابتة إلى بنوك مركزية يفترض أنها مستقلة ستوضح أن أدوات كثيرة تقدم وعودا بيقين أكبر من الممكن في عالم لا يقين فيه. وهناك أدوات أخرى تسبغ الكثير على الوسطاء الماليين أو أنها ببساطة لم تعد مناسبة للاقتصاد الحديث. وما أن يتضح أن النظام القديم لم يعد يصلح للعصر سيتم اكتشاف وسائل جديدة. فربما تختفي أدوات الدين بوعودها الخلابة بكل بساطة وتحل محلها أدوات مالية مثل الأسهم لها صفة الدوام في الاساس، وتخضع دائما لاحتمالات الخسارة في القيمة. وربما تتوقف الحكومات عن الاقتراض من أسواق المال فبوسعها طبع النقود مباشرة لسد متطلبات الانفاق بالعجز. وربما تجد السلطات الاقتصادية أدوات أقوى من سياسة أسعار الفائدة والتنظيم القح للبنوك. هل هذا بعيد الاحتمال؟ نعم لكنه ليس أبعد احتمالًا مما وقع فعلًا في السنوات الخمسين الأخيرة.