لا اعتقد أنه توفرت لأمة بادية ذواقة ذات ثقافة خاصة مثلما توفر للعرب.. العرب ذاتهم الذين يعانون الآن من "بداوة" ذوق العواصم الحاضرة وثقافاتها. في أمريكا وقبل ذلك في أوروبا وإلى سنوات قريبة في آسيا وكذا الحاضر القائم لافريقيا دائما ترمز حياة التنقل والتجاذب مع المراكز السكانية المستقرة بعلاقات الخوف والبطش وتدني الحس الإنساني بحيث تبيح رغبة الشبع كل هجمة متوحشة على ما هو في يد الغير.. إن العرب وقد عرفوا حكم القبيلة وانقادوا له ومازالوا في ولاء له فإنهم قد استأنسوا الحروب فمارسوها وأعطوها شعرها وحكاياتها الخاصة وفلكلور فرسان بطولاتها لكن ذلك كله وهو مع الأسف عائق حضاري حجب عنهم القدرة العقلية لاستيعاب حكم الدولة والانقياد لمصلحة الجماعية وطواعية تعميم النظام حين قاوموا الدولة الإسلامية الأولى بصيغ تحايلية مختلفة لم يكن يحرك مبررها العقائدي المعلن إلا الاستجابة أساسا للولاء القبلي ثم العشائري.. ذلك كله لم يسمح لنا عبر التاريخ وبالذات القديم منه أن نصف العرب بأنهم كانوا في باديتهم همجا رعاعا مثل حال بداوة الشعوب الأخرى.. إن الإرث الشعري للعصر الجاهلي لم يكن يتحدث عن تمجيد أنياب الفرسان ولا عن بحيرات الدم حول المنتصرين وفي انتصاراتهم كانوا يأنفون عن التمثيل بالجثث, فلم يتداولوا رؤوس الخصوم المقطوعة إلا في حاضرتهم.. إن قصيدة البادية التي قالها امرؤ القيس, أو طرفة بن العبد, أو عنترة, أو المنخل اليشكري حين تحتوي وصف الأطلال وليس في حياة البادية بناء ثم وسيلة النقل يأخذ الغزل منها النصيب الأوفر ويكاد يكون الأكثر رقة والأكثر صدقا في جميع فصول كتاب الشعر العربي لأن روادع البادية قريبة من حياة الشاعر الذي ليس بوسعه أن يضيع وسط تكاثر سكاني مزدحم كما في حياة الحاضرة.. هذا الغزل سبق أن وصفته بالمسرح الذهني الذي يحرك فيه الشاعر شخوص عمله الفني في تناسق أخاذ مبهر.. قد ترك لنا روائع نجد أن نصيب البادية منها هو الأكثر اتقانا ونقاء ووضوحا في الحس الإنساني الرقيق.. حين تحمل لنا الحياة الاجتماعية والسياسية تضادا واضحا في عزوف خصومات البادية عن بشاعة الانتقام ونجد أن الحياة الأموية والعباسية في هذا الصدد قد استباحت بعض المحظورات الأخلاقية والدينية تخويفا لخصومها, نجد أيضا أن شعر الحاضرة المستقر على لسان الفرزدق وجرير والأخطل هو في معظمه شعر هجاء وقدح فشل في نقل صور من ذلك المسرح الذهني الأخاذ في حين برع الصمة القشيري في باديته قرب موقع مدينة الرياض رحالا متنقلا في نسج أرق صور التعبير شفافية وتنضيدا لمحاسن الأرض ومحاسن الإنسان ولم يبحث شعراء المرحلة المشهورون مثل كثير وجميل عن غرام مستقر ولكن غرام "رعي البهم" هو الذي أمد تلك الشاعرية بحسها الرقيق.. لعل من يذهبون في رحلات ترفيه إلى ضواحي الرياض يتذكرون قوله: و وجدي بريا و جد بكر غريرة على والد يها فارقها فجنت ولا و جد اعرابية قذفت بها صروف النوى من حيث لم تك ظنت تمنت أحاليب الرعاة وخيمة بنجد فلم يقض لها ما تمنت إذ ا ذكرت ماء العذيب وطيبه وبرد حصاه آخر الليل حنت أو قوله: بنفسي تلك الأ رض ماأطيب الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا وأ ذكر أيام الحمى ثم انثنى علي كبدى من خشية أن تصدعا وليست عشيات الحمى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا لقد دفع تذوق الرحابنة المرهف بهما إلى تلحين هذا الجزء من قصيدة الصمة القشيري.. الاعرابي.. الذي لم يخطر بباله أن فيروز بكل بريق فنون العصر ستغني ترجيعه الظامىء وحيدا في صحراه وهي غارقة في ضوضاء آلاف المستعيدين لفاتن الكلام.. انني أتخيل فيروز وقتها تغني فوق واحدة من هذه الهضاب التي أجدبت من كل فن.. أولئك البدو.. كانوا "جامعة" لغة.. و"معسكر" انضباط سلوك ولهذا كان الخلفاء والنابهون من أبرز رجال الدولتين الأموية والعباسية يبعثون بأبنائهم إلى قلب الصحراء.. كي يتعلموا.. اللغة.. الكلام.. والانضباط السلوكي.. فأي شعب في العالم حظي بهذه البداوة ذات الجذور الثقافية والحضارية,وكيف تراجعت بعد أن أصبحنا غرباء عنها لتطاردنا بما ليس لائقا بها من استجداء..