كيف تجد تبرير مسألة أنك تأكل أكثر وتمشي وتبتسم أكثر حين تسافر إلى بلد ما, وبطبيعة الحال "ما" هذه لن تعني بلدا لا ترتاح إليه.. كيف يكون في مقدورك أن تزيد وزنك حين تأكل كثيرا وتنقصه حين تمشي كثيرا في حين أنك تتعب صحيا هنا عندما تأكل أكثر من التقنين الذي يتوافق معك, والمشي نعمة لا يقوى عليها إلا الحوامل تحت ضغط الضرورة الصحية لأن الشمس ترفض ذلك نهارا وحرارة الصيف ترفضه أيضا ليلا ويصعب على أي كائن بشري أن يقنن كل شيء في حياته وفق حالات المناخ.. إنها مسألة مؤانسة متوفرة أو معدومة مع كل من حولك.. وحولك هذه لا تعني محيطك العائلي أو الوظيفي.. إنها تعني بداية مقبض باب السيارة الذي هو مؤشرك عن درجة الحرارة داخلها والأشياء التي تمر بها في طريقك.. ماذا فيها يبتسم.. يوحي بالهدوء.. يحرضك على أن تغني بمفردك.. وهذا يتطلب وجود خيال غني في تكوينك.. والخيال إما أن يكون مجرد نصب جامد من نحاس أو قرميد أو صلصال وهو عاجز عن معونتك بل كم هو عبء في محله.. أو أن يكون انفراجات متوالية على آفاق واسعة تنقلك من الفهم المبسط للصورة.. الشجرة.. العصفورة.. الطفلة.. الحشائش.. العطر.. الوجوه.. الترنيم.. كي ترسم أنت صورة أرقى لكل ذلك.. ليس شرطا أن تتجسد عملا تشكيليا أو موسيقيا أو شعريا لتحتسب فنانا .. بل قد لا تحتسب أي شيء لكنك سوف تحتسب إنسانا شاعريا في كل خلجات لسانك وملامحك ورؤاك وأفكارك.. لن ترى الآخرين.. أو تقدم لهم أفكارك.. أو تعبر عن تذوقك في كل ذلك بوضعك نصب تعبير من نحاس أو قرميد بارد أمامهم.. ولكن مستويات متباينة بين قدرات الناس سوف تتلاحق وفق قدرة خيال تعبيرهم عن كل ذلك فيكون هناك فارق كبير بين كائن متجهم وآخر ذي مؤانسة ولطف مع كل شيء من حوله.. لأن كل شيء يحيط به يدفعه لأن يكون صاحب ذلك الايحاء.. إذا فإن المكان هو منشأ تلك الغيوم الشفافة التي تحوم حولك وتمطرك بالندى فترسل منك ردود فعل نفسية وذهنية وعاطفية تنعكس في تعاملك مع كل ما هو يحيط بك.. لن تفعل ذلك صفوف متلاحقة من "البلوك" المتطاول يمينك ويسارك حتى ولو تلاعبت به أزياء الألوان ونعومتها. سيعود النظر مرهقا أمام امتداد ذلك الثعبان الأسود العريض من الأسفلت وكأنك كلما قطعت مسافة منه كلما تعمق احساسك بأنه يلتهمك.. ليس حلا أن تكون المدينة الجافة من دورين.. واحد لما هو مصطلح عليه من تعامل جاد جاف الابتسامة فيه تذهب وقاره المطلوب, وآخر غير مرئي تلطفه الصلات العائلية أو روابط الصداقة أو اجتماعات الزمالة, لكن الفرد كلما تنفس شيئا من جدية حياته العامة وبتأثير منها كان مثل من يفتح شباكا ساخنا شبعته رياح سموم بذرات الرمال على داخل خيمة صغيرة للغاية انهكت قدرة التكييف المتواضع كي تتمدد الذهنيات والمشاعر والعلاقات في حالة ارتياح أو تذوق أو تأمل أو ابتهاج مثلما هو يحدث في شوارع الآخرين..