كثير من شعراء العربية تحدثوا عن النخلة أحاديث تمتلك نواصي التفكير، وتخالج النفس، وذلك أن للنخلة مكانة أثيرة في ثقافتنا وأهمية في حياتنا، والنخلة تشبهنا عند غرسها وعبر مراحل نموها إلى موتها، وتشبهنا في معايشة البيئة الحارة، ولا تنمو في غير البيئات الحارة، وصحبتنا في حياة شظف العيش حتى ظننا أنها لن تقاوم قهر معطيات العصر الحديث، فإذا بها تزداد تعلقا بحياتنا، فتحتل مكانة الزينة في منازلنا وحدائقنا وشوارعنا، وإذا بها أيضا تغازل الصناعة التي أخذت تستجيب للغزل وتخطب ود النخلة، وارتفعت أسعار التمر وظهر الاهتمام بالجيد من أنواعه. والصناعة التي تعتمد على النخل من بينها الحلويات والسلال وغيرها. لقد كان موسم الصيف تحتضنه القرية ذات النخيل الظليلة والثمار الوافرة، وما زال موسم الصيف محل احتفاء بثمار النخل، وما زالت مناطق انتاجه تباهي به من خلال المعارض الموسمية. وشعراء حائل كثيراً ما يطلقون على النخل وغراسه ما يطلق على الجميلات من النساء كالغيداء في قول الشاعر سلطان الجلعود (1320 1374ه): الضيف لا جانا نلاقيه بسرور ونضحك بوجهه كنّنا شايْشينا نشري قراهم والمساعر هكالدُّور الحَبّ صاع وبالرطب وزنتينا وكم ليلة يلقى نمى الغيد منثور لهتّاش ليلٍ والعرب نايمينا وهنا يعني بالغيد النخلات المتجاوزات لعمر الودي ولم يبلغن عمر النخلة السامقة والتشابه بين الغيد من النساء والنخلة الفتية دليل تكريم واحتفاء ومغازلة. ويبدو أن الكرم متأصل في هؤلاء الناس الذين لا هم لهم إلا إكرام الضيف، وهتاش الليل عابر السبيل الذي يلوذ بهم طلبا للدفء والطعام. ويعجب الشاعر بالنخل وعنا قيد الثمر منذ ظهور طلعها حتى جذاذ قنوانها: تلقى القنا ليا جيت هو تو مابور وليا انهزع ما تنهضه باليمينا كم واحد يَكْتِفْ من الدين ماسور وليا اثمرن يطلق كتاف اليدينا وكم دفترٍ قطّع على الحَوْل مجرور وكم من عميل قال: حنا رضينا للنخلة دور هام في حياة الناس وقد صور الشاعر قلق الناس من الدين وأسرهم لدى العملاء الذين يدونون ما يشترى الناس خلال العام، فإذا استوى ثمر النخل سددت الديون ومزقت الدفاتر، وزال القلق عن المدين وظهر رضا الدائن، هذا تفريج الهم تساهم النخلة بشكل كبير فيه. ومن حضر المصائف في الماضي وشاهد الحياة فيها وانتعاش أسواقها وفرح الناس يدرك سر الاهتمام بالنخلة التي لا يوجد في صحراء الجزيرة شجرة بمنزلة النخلة. إن زمن الشاعر في شبابه شهد شيئاً من المعاناة يقول في تصويرها: مرٍّ يبّدل ربنا العسر بيسور ومرٍّ ندنّق عن صديق يجينا ومر يمر بك الرجل تقل مجدور من القل ما نقوى على الطبختينا ومر خروف للمشاكيل مجزور وصينية تسحب على اللي يجينا هذه حال الناس فيما قبل أكثر من سبعين عاماً مضت، فلنحمد الله على ما أنعم به علينا. وابن الشاعر ورث حب النخل عن أبيه يقول: أبي الغريس اللي بنشره جعلني مثل الطبيب اللي يعالج جنينه الله على حب الغرايس جبلني أرخص لها الغالي وعندي ثمينة وخدمة النخل بدءا من غرسه إلى نهاية عطائه شاقة في واجباتها، محزنة في بعض حالاتها عندما يغيب المطر أو تقصر العيون والآبار عن ري النخل، فينظر صاحب النخل إليه نظرة المشفق الحزين الذي لا يملك وسيلة للانقاذ، وشاعر الجبل عبدالله القضاعي يصور لنا معاناته لري غراسه عندما اضطر إلى نزف الماء من البئر بديلا للحيوان: تَرَنْ بخير ونعمة صرت كدّاد أجذب من الصافي على شمخ الغيد وابشرك اني تِمَرْجَعْت معواد أسوق بالمنحاة مثل المعاويد وليا انطلقت بعدتي تقل مجداد من فوق عيدا واطلقوه الجواويد وهو يشبه سرعته في المنحاة بزنبيل الجذاذ ينطلق من أعلى النخلة ليتلقاه الخرافون، وهي صورة يدركها اليوم من شاهد انزال المواد من أعلى المباني باستخدام الحبال، والغيدا النخلة السامقة والجواويد الذين يقومون بجذاذ قنوانها. والقضاعي شاعر عصامي أمضى حياته كادحاً، متخذاً من الزراعة سبيلا لحياة كريمة وينظر للنخلة نظرته لأغلى ما يستحق الدفاع عنه والتضحية من أجله، فعندما هوجمت قريته من قبل غزاة هب أهلها للدفاع عنها، من أجل من؟ ولعيون من هذه التضحية؟: لعيون من هزّع نماها رطيبه غيدٍ يقطعن الدفاتر مدابيح إنها النخلات التي تقضي الدين، وتدخل البهجة إلى القلوب. وحينا نجده يخاطب النخلات حاملاً إليهن البشارة بظهور الماء ولكنه كان ساخراً هذه المرة مما آل إليه حاله، وهذه السخرية يحفل الأدب العربي بمثلها: تباشرن يا الغيد بالما الزلالِ هِنِّيت كَبْدٍ تَصْبح اليوم من ماي وليا اكترب حبلي وطَلْفَحْ جلالي ما ألتفت لو يَتْمِزْ البِسُّ بخصاي يد على مَتْنِي تجر الدوالي ويد بخلفى تقل تَنْكسْ لحثراي إن سانع الله والمريعي هيالى لياقومة الحُرَّاث انا اسد برشاي صورة كاريكاتورية للشاعر وهو يسحب الماء من البئر حالاًّ محل الحيوان الذي يقوم عادة بذلك. وكما يوضح السويداء جزءا من هذه الصورة في البيت الثالث: «إحدى يديه تكون فوق متنه ليمسك بها الرشا من طرفه والثانية تمسك الرشا مع مقبض آخر باتجاه الخلف». ومن الصور الجميلة للنخلة ما أشار إليه الشاعر القضاعي: ما احلاك يا غرسٍ على مِجْنَب السوق لا شافهنّ مولّع الغرس يشتاق غيدٍ عليهن ناخذ الطاق مطبوق غيدٍ يقطِّعن الدفاتر والاوراق والشاعر يخاطب جمله الذي يعمل لنزف الماء، وقد أسماه « سمَيْر » أو انه يدلّله لسواده، ويستشيره في أمر بيع النخل (الغوالي)، فالجمل لديه بمثابة صديق وشريك في الكفاح فيقول: وَشْ هقوتك يا سْمَيْر ببيع الغوالي لا صرت للي يستشيرك نصوحِ؟ وعلى لسان الجمل يقول مجيبا: ليا صار لك رايٍ على شف بالي وانته صدوق ولا تحب المزوحِ لا انته من اللي يشتغل بالريال ولا انته من اللي بالبنادر تروحِ اشتن بشان اللي على العرش عالي ما تنفع الفيّة خطاة السدوحِ مغاني المومن وكسب الحلال نَسْف الرشا من فوق خطو الصيوحِ لا دَوْبَحَنْ بالطَّلْع مثل المحالِ للي هدى الله يكسبن المدوحِ ما دمت لست من التجار ولست من المغامرين في البحر فليس لك غير هذه النخلات، ابذل الجهد واعمل فسيجزيك الله من وراء هذه النخلات خيراً، وهو يمقت البطالة والكسل، ويغري الشاعر بتصوير منظر النخلات وقد طوقت بالقنوان، و«دوبحن» مفردة تحمل في مضمونها غزر العطاء. على أية حال، استمتعت كثيراً بقراءة شعر شعراء الجبل للأستاذ السويداء وسرني تعقيبه واعتزامه على إصدار طبعة جديدة تضم ما يزيد عن أربعمائة شاعر وشاعرة، ويهمنا منهم القدماء الذين يكشف شعرهم عن حياة اجتماعية وتأريخ ومشاعر وقيم لن نجدها في غير الشعر الشعبي، وحتى هذا النوع من الشعر له تقاليده التي لا تبعده كثيراً عن شعر الفصحى، فشكراً للأستاذ السويدا وستكون لكتبه القادمة قراءات تثري هذه الأدب الجميل.