1 Rengaine هو اسم الفيلم الذي قلب مقاييس التصوير والإخراج والتمثيل. هذا العنوان للشريط يعني النغم الذي يتكرر حتى نصاب بالسأم التام. في مهرجان كان الذي اقيم في ايار الماضي فاز هذا الفيلم بجائزة كبيرة. كنت على موعد مع صديقتي لكنها اتصلت بي من كان وهي على وشك ان تزغرد قائلة: معذرة يا عزيزتي، لن استطيع اللقاء اليوم فأنا في كان. الأولاد حصلوا على جائزة النقاد الكبرى.. وأنا هنا احضر معهم هذا العرس والانتصار. ولدها مصور بارع جدا، كريم الديب، أعرف هذا، لكن الحكاية ليست هنا، ولم تبدأ من هذا الابن، ولا أعرف أيهما أشقى وأعمق وألذ روايته؛ القصة التي دونت وصورت وعاشها أصحاب الفيلم وبالذات بقلم وسيناريو وإخراج مؤلفها الجزائري رشيد دجايداني، أم رواية حكاية رشيد بالذات ؟ إن الأمور دائما تجري على نحو متقلب. المخيلة في رواية حياة رشيد غير نافعة قط، وإذا ما بدأت فورا في سردها فما علي إلا ان افحص شخصيا أدواتي ومفرداتي لكي تبدو أشد تماسكا من حياة سمعتها وأسمعها من صديقتي، وما قرأت عنها في الصحافة والنت وهما يرويان لي وأنا الهث وراء الحكاية. اشرع حالا بإعلان إعجابي المنقطع النظير لسلسلة من الشقاءات ولا أريد قول ما ذكره هو، رشيد - واسماه بالاهانات التي تعرض لها في احدى المقابلات الإذاعية. هو ولد من بين 14 شقيقاً وشقيقة يعيشون هنا، في ضواحي باريس. 2 والد رشيد عامل جزائري بسيط والوالدة ربة بيت تقليدية، والأخوة يتناوبون العمل ما بين ورشات البناء، في البيع والشراء، في السياقة على عربة مستأجرة، عمال في مصانع. لم يتعلم أي أحد منهم، فلا وقت للعلم والتعلم. الحياة تعلم وتقلب البشر. رشيد لم يفلح في أية مهنة وٌضع فيها، فقرر الالتحاق بالنادي الرياضي ليكون ملاكما. تصورت الوالد حين سمع ابنه وهو يقول ذلك، رجلا أمريكا فهذه ظاهرة أمريكية وعلى الخصوص للسود هناك. أظن أن الوالد فكر بطريقة أبوية جد قاسية وحنونة معا،أن يكون أحد الأولاد قادرا على حماية نفسه وحماية إخوته، ان فعل التلاكم هو فعل دفاع بالدرجة الأولى. أن يكون بدنه أداة للربح والخسارة، للمال والجروح. بدأ تدريب رشيد على الملاكمة وحدث وفاز في بعض الجولات ونال بعض النقود. بدأت الأسئلة الغامضة ترد على ذهنه. من هنا تتأسس الذات، ذاته الفضولية الحشرية على الصعيد الوجودي. وكانت أضواء باريس وهو يراها عبر المصابيح تفتح أفقا في رأسه ان يكون شخصا آخر. كان رأسه حاشدا بالنقاط والأفكار، بالاوجاع والمسرات التي كان ينتظرها ويرتعب ان لاتأتي فداخله يغلي بالأسئلة والاحاسيس المتلاطمة. وفي أحد الأيام يعثر على آلة كاتبة عتيقة جدا بين النفايات. من أول ضربة على تلك الآلة قرر ان تكون ضربته قوية جدا، أما قاضية فقد كانت فوق الخيال. 3 خفية عن والده، المستبد الأول في حياته الذي كان يطالبه بايفاء التزاماته العائلية، جاءه زوج أخته لكي يرافقه كحارس سياح حول منطقة تصوير لأحد الأفلام السينمائية. قال له: أنت ملاكم وبدنك قوي ويستطيع صد المتطفلين وكسب بعض المال. وأول ما برق الفلاش أمام عينيه صرخ بصوته الداخلي: هي، هي السينما وحدها القادرة على إعادة توازني وإخراج البراكين من داخلي. كان على يقين تام انه يستحق هو وجيله من المهاجرين حياة كريمة بعيدة عن الهوان والذل بما يملكون من منظومة قيم الآباء والاجداد. وكان القدر وأول مرة يقف بجواره. فصار رشيد بطلا من وزن الريشة لنحافته الشديدة. وتلك الأوراق تحولت إلى كراسة ثخينة وبدأ يحدق بها ولا يعرف ماذا سيفعل بها إلى ان قابل رجلا ناقدا شهيرا سوف يقلب حياته رأسا على عقب. فصحبه إلى واحدة من دور النشر العريقة في باريس - سوي - لكي يطبع كتابه الأول وحالا ب 100,000 نسخة بعد اجراء الضبط والتعديل والشطب. صدر الكتاب ودخل سرادق المشاهير فولع به برنار بيفو صاحب أشهر برنامج أدبي في فرنسا على مدى عقود واستضافه في برنامجه: ابوستروف - الذي يستقبل فيه المشاهير من الكتاب والشعراء والفنانين، وتم تقديمه بابهار واعجاب شديدين وبتشجيع بلا حدود برشيد الكاتب الجزائري، ثم اصدرت له ذات الدار كتابين آخرين. . الكاتب يلعب على اللغة، فهو ماكر وخداع حين يلاقح ما بين اللغة العربية الدارجة في احياء الضواحي واللغة الفرنسية. من هنا فقد يعني العنوان انفجار في الفؤاد. أو ضربة قاضية . Boom Keur 4 عناوين كتبه مراوغة كما حياته المتعرجة. فصارت نجوميته تفتح له الأبواب كي يحل ضيفا على البرامج التلفزيونية والاذاعية. واختاره لشكله وطريقته الخاصة في ارتداء ثيابه وإعلان هامشيته في جميع التصرفات في المشي والضحك، في المأكل والضحك الخ. التقط كل هذا في شخصه المخرج المسرحي البريطاني الأشهر بيتر بروك وسحبه إلى لندن للعمل في محترفه المسرحي ما بين لندن ونيويورك وباريس. قام بادوار متعددة لشكسبير. أظن ان بروك قام بإعادة تأهيله بدنيا وتمثيليا وفيزيائيا، فهو مخرج يفلي الجلد والروح للممثل الذي ان وضُع في طريقه فسوف يقلب على البطانة وتبدأ اشواط التعرف على النفس، وكأننا نلتقي بها ولأول مرة. يبدو ان بيتر بروك وبرنار بيفو بالذات وغيرهم من الأساتذة من حوله كانوا الروافع العملاقة التي اعادت خلقه، وقامت بإفلاته من مصيره الأول. هو رشيد ذاته قام بفعل الملاكمة مع نفسه، مع ماضيه وحاضره حتى ادمى كل بقعة في روحه فظهر أمام النفس رقراقا كالشجن الصافي للكائن الجديد. ربما لم يصدق نفسه، وإذا شئنا لم يصدق انه يستطيع ان يشغل الحيز الذي وصله أو شغف للوصول إليه. كان يريد ان يكتب عن حياته ووالديه، اخوته، العالم الذي مر وسجن، تلوع وحزن وتعذب فيه ومن ضمن هذه العوالم ظهرت كتبه الثلاث. كان المستمع يصغي إليه مبهورا بفخامة فرنسيته وكأنه تخرج للتو من السوربون، لكنه فعليا لم يدخل أية مدرسة. بقيت حواسه ومسامه تصغي وتشرب، تهضم وتبلع جميع ما استهواه لدي الجميع الذي قرأ أو سمع بهم من الكتاب والشعرا ء والمؤلفين والمسرحين والسينمائيين. بدأ شاعرا هو الآخر، حالما كبيرا وطفلا كبيرا. +++ كان ضروريا للقارئ العزيز ان اصحبه معي في رواية هذا الكائن الجميل الذي كتب واخرج فيلما آثار كل هذا الدوي والنجاح قبل الكتابة عن الشريط الذي شاهدته. كان علي استضافته وتحيته كعربي جزائري هو وكريم الديب المصور لأجزاء من هذا الشريط وباقي طاقم الفيلم في هذه الحلقة الأولى. ياه، كم تعلمت دروسا لا تقدر بثمن من سيرة هذا الفنان العربي، من التواضع واللياقة، من الشجاعة والإرادة، من المسؤولية والإحساس بالجمال رغم الدمامة التي جابهت حياته وحياه أسرته. تحية إلى عربي ظل يتشاجر مع نفسه وبالدرجة الأولى لكي يتعين عليه وبثقة، ان يدع الآخر لا يشيح النظر إليه كما كان في السابق. نرفع القبعات له فحياته في جانب كبير منها هي حياة ملايين المقتلعين من المهاجرين في الغرب، وليس في فرنسا فقط.. وإلى الحلقة القادمة.