بين عروبة التاريخ والجغرافيا واستعادة الأراضي المقدسة وبعث العروبة الواحدة مروراً بالبحر الأبيض المتوسط وفلسطين المصرة على الوجود في الماضي والحاضر، كان البحر الأبيض المتوسط بحراً ذا جاذبية خاصة فعلقت به العقول والقلوب بل والجيوب أيضاً بعد أن اكتشف أهله وغير أهله قدرة أهله التجارية ونجاحهم مع كل الشعوب المحيطة به في اقامة الروابط الوثيقة القابلة للتحريك والتثمير، حتى استقر في الأذهان أن الشعوب كلها حيثما كانت مدعوة للاختيار بين البراعة المتوسطية والانفتاح المتوسطي أو تقضي عمرها في نصب الشباك لكل من اقترب للمتوسط وفي ذهنه الانفتاح أو التطور على طريق الافادة التجارية أو المدنية في ما يعود على مستخدمي البحر بالخير. إن حركية المتوسط وانفتاحه على الآخرين جعلاه منذ زمن ويجعلانه اليوم باباً مفتوحاً على ثقافات وإرادات وفاعليات متعددة لعبت وتلعب أدواراً في تطوير حياة الشعوب وقدرتها على التغيير عند الآخرين وداخل الذات الفردية والجماعية. ربما لا يكون لبنان من البلدان ذات الحاجة للمتوسطية، بل ربما كان من بعض الوجوه متوسطياً أكثر من اللزوم سواء في تطلعاته أو سلوكياته ولكنه بالاجمال أفاد المتوسطية واستفاد منها والواقع أنه إذا كانت قد ظهرت منذ ذلك الزمن ظواهر اعجاب قريبة أو بعيدة بالفينقيين فالفضل في ذلك للعقليتين اللبنانية والسورية اللتين كانتا سباقتين في اكتشاف خيرات التعامل مع شعوب حول المتوسط. لقد تطور الانسان المتوسطي منذ مدة بعيدة فقلده الآخرون في ما يفعل ويدبر لنفسه وللآخرين ومن ثم أمله أن تكون الريادة في تفعيل قدرات وعطاءات هذا البحر للفينيقيين والمصريين والفلسطينيين بحيث تكونت نظرة عالمية تضفي شرف الريادة وبراعة الريادة على انسان المتوسط، مما أفاد العرب وغيرهم في أن تصفهم أمم كثيرة بأنهم رواد، فالمتوسطي ولا سيما الشرقي كاللبناني هو رائد في حساب التاريخ سواء هو هذه الحقيقة في وقت مبكر أو تأخر وإنما الفخر دائماً للسباق زمناً وانتاجاً وهذا ينطبق على سكان شرق المتوسط قبل غيرهم وهم أصحاب خبرات مختلفة لا تتشابه فقط. المتوسطية يا لها من هوية تعصب الكثيرون لها وما زالوا كما انحاز لها آخرون وما زالوا. إن هناك بين المتعصبين للمتوسط متوسطيين وغير متوسطيين والجامع بينهم شعوب وخبرات متعددة ولا نبالغ اذا قلنا ان هناك من تعصب للمتوسطية وهناك من تعصب ضدها وهناك كثيرون وصموا المتوسطية بالنفسوية والتسلق في طلب المصالح الذاتية ولكن مردود ذلك الحكم السلبي عليهم ظل محدوداً. إن حركية المتوسط وانفتاحه على الآخرين جعلاه منذ زمن ويجعلانه اليوم باباً مفتوحاً على ثقافات وإرادات وفاعليات متعددة لعبت وتلعب أدواراً في تطوير حياة الشعوب وقدرتها على التغيير عند الآخرين وداخل الذات الفردية والجماعية. ربما لا يكون لبنان من البلدان ذات الحاجة للمتوسطية، بل ربما كان من بعض الوجوه متوسطياً أكثر من اللزوم سواء في تطلعاته أو سلوكياته ولكنه بالاجمال أفاد المتوسطية واستفاد منها. إننا لا ندعو بهذا الكلام الى الشارل مالكية أي اتباع خطى شارل مالك الأستاذ في الجامعة الاميركية في بيروت ولكننا ندعو اليها كانفتاح على العصر وما وصل اليه من تطور يحتاج اليه كل انسان ولا سيما الشرقي طالب التغيير والمقدر لفوائد التفاعل مع الفكر العالمي وما وصل اليه من جدية. إن مصر ولبنان قد تجاوزا مع غيرهما من البلدان العربية أيضاً الحساسية تجاه الفكر العالمي وليس عندهما ذعر مما يسببه التغريب في الفكر العربي والثقافة العربية فقد مضى زمن الخوف من كل جديد، فهناك الجديد الراقي كما هناك الجديد العائش على انتاج الغير وهذا الثاني مرفوض عند أي أكاديمي عربي جدي. ان الأكاديميين العرب لا يتصلون بعضهم مع بعض الى حد اطمئنان المثقفين العرب على مستقبل الثقافة العربية لا في مصر ولا في غير مصر مع وجود الفوارق هنا وهناك فالجامعة الاميركية في بيروت على سبيل المثال كانت ولا تزال من المعاهد التي ارتقت بالفكر السياسي العربي، بل ان الأساتذة الاميركيين والفرنسيين في جامعة بيروت الأميركية هم من دعاة العروبة الأصرح والأكثر جدية في عالمنا العربي. وهذا ما يطمئن الأذهان والنفوس بشرط عدم المبالغة في الاعجاب بالتدريس الأجنبي والتوهم أنه يستطيع الحلول محل الفكر العربي. ولكن بالاجمال لا يزال الفكر الجامعي في بيروت وغير بيروت من العواصم العربية بخير، وكذلك الأمر بالنسبة الى الجامعات المصرية فالموقف لا يجوز أن يكون هروبياً لا بد من البقاء في دائرة الايجابية إزاء الجامعات بشكل عام وفي طليعتها الجامعة الأميركية في بيروت. ولا يجوز نسيان ما قدمته الجامعة الأميركية في بيروت وأساتذتها. وهذا ينطبق الى حد على الجامعات والمعاهد المصرية التي كانت ولا تزال تبث الروح العلمية والوطنية في شبابها. مضى الزمن الذي كانت فيه المتوسطية أي الاهتمام بالبحر الأبيض المتوسط كرابط بين شعوب ينبغي أن ينظر إليها على أن الطبيعة الجغرافية والمساكنة والكيان السياسي والأديان كانت مشاعر تدفع بها أحياناً بل غالباً في اتجاه التقارب بينها سواء الجغرافي والثقافي أو السياسي وليس دائماً كما يحصل أحياناً تباعد في اتجاه التناحر والخصومة أو التأكيد على الفوارق أو التباعد العملي أو المهني والجغرافي. فالمتوسطية كانت ولا تزال مدرسة في التأقلم أو التعامل المشترك مع المتوسط وهي ما زالت تتطور وتطور ما حولها حتى أصبحت عند قطاعات من المهتمين شبه مدرسة ثقافة اجتماعية فكأن من مال الى المتوسطية اختار طريقة حياة او سبيلاً الى حياة أحبها وتعلق بها كثيرون. والواقع أن هوى المتوسط كان دائماً يطور المقبلين عليه فكان هؤلاء مأخوذين لهوى المتوسط يعيشون بإرادة منهم أو غير إرادة طريقة وخيارات تشكل المدرسة المتوسطية. وإذا كان لبنان قد تحمس للمتوسطية في زمن الأستاذ شارل مالك، فإن هذه المدرسة توسعت ولم تقتصر على شارل مالك الأستاذ في الجامعة الأميركية بل ان هناك طلاباً اختاروا التخصص في الفلسفة اعجاباً بالمدرسة الفلسفية الشارل مالكية التي أعطت الانطباع بأن شارل مالك منذور من الارادة الالهية لجعل لبنان مهداً ومنطلقاً للخط الفلسفي الشارل ملكي ليصبح لبنان مركزا يقصده كل من آمن بشارل مالك صاحب مدرسة فلسفية ذات شأن. لقد كان أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت قريباً جداً من أن يصبح أستاذاً نموذجياً في نظر كل طالب وأستاذ جامعي. ولكن وجود صراعات في الجامعة حول العلمانية والتدين قطع الطريق على الأساتذة ذوي الحماسة الشديدة لمدارس فكرية دون أخرى. وهكذا نجحت ادارة الجامعة في وقف موجة التعصب الديني أو التعصب العلماني وكأن العلماني والمتدين وجهان لعملة واحدة جوهرها التعصب فهذا متعصب دينياً وذاك متعصب علمانياً. وقد انزعجت ادارة جامعة بيروت الأميركية من هذا الخلاف ذي العلاقة بالدين كل الانزعاج ومن ذلك الزمن حتى الآن لم يعد الدين مبرراً للخلافات بين الطلاب. وهكذا صنف اعتصام الجامعة على متطرفين. ولعلنا لا نخطئ اذا قلنا ان المستفيد الأول من ذلك الخلاف بين أصحاب النزعة الدينية المتطرفة والمعتدلين كان هو الجامعة وطلابها وأساتذتها معاً فهؤلاء نجحوا في تجنب العصبيات والتناحر الصبياني وبقيت الجامعة محترمة كما كانت دائماً. لقد فتح التمدن الحديث الشباب والصبايا بعضهم على بعض، ولم يعد أحد قادراً على وقف وتيرة التمدن والعمل والخدمة. ليس الفتى العربي هو الذي ذهب الى حيث الخبرة والقدرة على التقدم بل هذه هي التي ذهبت إليه. وقد أوجد ذلك تفاعلات اجتماعية وثقافية وعلمية تمنع الانسان من الرجوع الى الوراء. لبنان الكيان والوطن والتطلعات من جهة ولبنان المتوسطية البحر والثقافة والرسالة من جهة ثانية بل من جهة تأثيرة أيضاً. فلبنان لا يكون كما هو من دون المتوسط البحر والحضارة وفي المقابل فإن لبنان نجح واعتز بالمتوسطية. لقد عاشا معاً طريقة حياة لا في الأمس ولا أول من أمس بل منذ أيام الفينيقيين والفراعنة ومعهما بداية الحضارة الانسانية. لبنان والمتوسط صنعا معاً انطلاقة هذا الجزء من العالم الذي كان حجر الزاوية في انطلاقة احدى أهم وأقدم حضارات هذا العالم والمقصود الحضارة المتوسطية التي ما ان تمكنت من الأرض التي هي عليها حتى انطلقت في صنع عالم جديد هو عالم المتوسط القوي التأثير في تطور العالم فبزوغ المتوسطية كان فاصلاً في تاريخ تطور البشرية ولن يكون بعد اليوم إلا واضع الأسس لولادة العالم الحر. لم تعد خبرة الانسان العربي مطعوناً بها كما كانت في وقت من الأوقات، بل ان ظروفاً متعددة فتحت أمام الانسان العربي فرصاً لم تنفتح أمام كثيرين سواء عرب أو غير عرب، وكلما مرّ الزمن اتيح للانسان العربي أن يتعلم ويتثقف بسرعة اتاحتها له الظروف وظروف المحتاجين له. وقد برهن الانسان عن أنه يستفيد ويتثقف بسرعة إذا توفر له ذلك. فها هنا عالم جديد قد ولد على أرض الشرق ولن يكون العالم المقبل إلا من جنس ذلك المولود القادر بل العجيب في قدرته الذي اسمه عالم المتوسط.