تبدو لنا( غَزَّة ) ويبدو لنا ( الغزيّون ) استثناءً من الجدار العربي والإسلامي المتصِّدع. الغَزّيون وحدهم اليوم، بقَضّهم وقَضِيضِهم، في ساحة الوغى، يرسمون بدمائهم صور ومعالم العِزَّة والكرامة، والتحدِّي والإرادة، والشَّوْكَةِ والشَّهادة. في "معجم البلدان" يرصد ياقوت الحموي لغَزَّة بِسَفْر تاريخها، وتراثها، وموقعها، وحدودها، بسطورٍ اختزلت منها الآتي: ( غَزَّةُ: بفتح أَوّله وتشديد ثانيه وفتحه: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أ قلّ " الفرسخ: ثلاثة أو ستة أميال" وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان. قال أبو المنذر: غزَّة كانت امرأَة صور الذي بَنَى صور، مدينة الساحل قريبة من البحر. وفيها مات هاشم بن عبد مناف جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قبره، ولذلك يقال لها غزَّة هاشم. وبها وُلد الإمام أبو عبداللهَ محمد بن إدريس الشافعي " رحمه الله " وانتقل طفلاً إلى الحجاز فأقام وتَعَّلَمَ العلم هناك، ويُرْوَى له يذكرها: وإِني لمشتاقٌ إلى أرض غزة وأن خانني بعد التفرّق كتماني سقى اللهُ أرضاً لو ظفرتُ بتُرْبها كحلتُ به من شدّة الشوق أجفاني في دفاتر هذه المدينة الصامدة، امتزج عبق الماضي ومجده، بصلابة الحاضر وأمجاده، في زمن الشَّدائد والمِحن، ووحشية البطش والإرهاب وقصف الناس والدور والشجر. الغَّزيون يقاتلون وحدهم، عدواً شرساً، يفوقهم عُّدَّة وعتاداً، وتجهيزاً وسلاحاً، وحِلفاً وأحلافاً. الغَّزيون يقاتلون وحدهم بإمكانات محدودة، وظروف معيشية قاسية للغاية، وحصار ظالمٍ ضرب بأطنابه كل أوجه الحياة داخل هذه المدينة المجاهدة، فأضحت: الشِّدة، والكَبَد، والمعاناة، والجوع، واللأواء، والجهد، والضنك مترادفات لحياة يومية شديدة القسوة والمرارة. الغَّزيون يقاتلون وحدهم إخوان القردة والخنازير، ويتحملون وحدهم ضربات العدو الحاقدة، وآلة القصف المجنونة، التي بطشت بكل منابت الحياة، وأحالتها إلى ركامٍ وأنقاض وأشلاء، أمام عجزٍ عربيٍ فاضح، وبمباركة من القوى العالمية المتنفذة، وغلبة المصالح الضيقة، ومفردات: الانتهازية، والكراهية، والانتقائية. الغَّزيون يقاتلون وحدهم، وقد تدفقت دماؤهم على ثرى رباط غَزَّة، في ملحمة جهادية تجاوزت الوصف والتقدير، والشرح والتحليل، والبحر والمحيط، فأمطرت الأمَّة بزخَّات متتالية من الدروس والعِبر، أعادت إلى الذاكرة أمجاد حطِّين، وصولات صلاح الدِّين الأيوبي، على أملِ أن تستفيق الأمَّة من سباتها العميق، وتنفض عن جسدها المنهك غبار السنين، وعوالق الضعف والوهن، وتداعي الأعداء عليها من كل أفق، كَمَا تتَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا. تستجدي الماء، والخبز، من موائد الكبار، والصغار، واللئام، وتستجدي الغوث من أصحاب القرار والامتياز، وتتعلق بأوهام السلام في زمن الذئاب والضِّباع. أيُّها الغَّزيون: هنيئاً لكم بأعراس الشهداء، وقوافل الجرحى، وهنيئاً لكم في أيامكم المجيدة، في رباط العِّزة والشموخ، والنِّزال والصمود، وهنيئاً لكم بالنَّصر والظَّفر والتمكين بإذنه ووعده تعالى.