تفكك الاتحاد السوفيتي في عهده ولم تتفكك بندقيته التي صنعها ولازالت تحصد ملايين البشر. من شاب فقير مزارع، برتبة عريف في الجيش الأحمر، إلى أشهر المخترعين في العالم راوده الحلم في اختراع آلة زراعية للتخفيف عن متاعب والده... فكان اختراعه البندقية (رشاش كلاشنكوف) أول اختراع ل (كلاشنيكوف) كان في التاسعة عشرة من العمر والأصغر بين المخترعين في العالم شغل منصب عضومجلس السوفييت الأعلى منذ عام 1953 لست دورات متتالية حتى تفكك الإتحاد الروسي يتمنى إنشاء جائزة باسمه لضحايا الحروب وعائلاتهم... لكن العين بصيرة واليد قصيرة؟ نبذ الحروب... والتعايش السلمي بين شعوب الأرض... أمنية يتمنى تحقيقها «كلاشنيكوف الابن» على خطى الأب «فرخ البط عوام»ولكن وبدون سلاح!! مسيرة حافلة بالابتكارات والجوائز والنياشين... ونال لقب «د.مهندس» ولم يتجاوز المرحلة المتوسطة من تعليمه في عالم تسوده الصراعات والنزاعات وانفجار بؤر التوتر، في ظل ما بات يعرف بالعولمة، وصراع الحضارات، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحرب على أفغانستان والعراق، وما تشهده المنطقة العربية من صراعات سياسية، وعلوالأصوات المنادية بالتغيير والتجديد ونشر ما أسموه بالديموقراطية الجديدة، وابتداع العديد من المصطلحات الفضفاضة كالعالم الحر، والشرق الأوسط الجديد، وحرية الشعوب، والشعوب التواقة للحرية، حتى غصت الساحة وفي عالمنا المشرقي بالعديد من تلك المسميات، وتاهت المعايير وتعددت وتباينت الضوابط في خضم العاصفة، وكأن كل هذا السيل من المصطلحات قد تم تفصيله بشكل فضفاض للعالم العربي أوحتى للإسلامي على وجه التحديد، مع تفاوت درجات الغليان والحنق، وفي كل يوم يأتي الإعلان عن تحالفات جديدة بين أعداء الأمس القريب ليكونوا حلفاء اليوم، وليبدأوا بمسلسل الإملاءات التي تبدأ ولا تنتهي، وكأن القدر يجمعهم عندما يتعلق الأمر بعالمنا، وفوق هذا وذاك تسد الأفق رائحة البارود والنار لتزكم الأنوف، وترتفع أسهم صناع السلاح ليصولوا ويجولوا في أنحاء المعمورة ويتلاعبوا بمصائر الأمم والشعوب المقهورة،لتزدهر تجارتهم على حساب كفاف قوت الشعوب، وببعض من الجهل في أبجديات السياسة عند أربابها وصناع القرار، وينعكس بالتالي الأمر على برامج التنمية والتعليم والصحة ووو....! وفي الظل هناك رجال عملوا من وراء الستارة، منهم من كان في مختبره يبذل قصارى الجهد، ليقدم ما يفيد بني البشر،كما الأمر عند (ألفريد نوبل) والذي ما أن أنجز اختراعه الكبير (الديناميت) حتى تنفس الصعداء بعد طول عناء، ليسهم اختراعه في مساعدة بني البشر في تفتيت الصخور العنيدة في أعمال شق الطرقات وتوصيل أنابيب المياه للأفواه العطشى فيما لواعترض المشروع صخر أصم، حتى أكل قلبه الندم لما اخترع بعد أن بدأ بنو البشر في استخدام الديناميت كمتفجرات لقتل البشر أنفسهم، فأصابه ضرب من الاكتئاب والندم حيث لم يكن في نيته إلحاق الأذى بالبشرية كما شهده في أواخر أيامه، فاهتدى للتكفير عن ما بدر منه بتخصيص ما جناه من أموال طيلة حياته لمن يقدم ويبدع في مجالات العلوم الإنسانية تحت ما باتت تعرف ب (جائزة نوبل) فمنها للعلوم وأخرى للآداب وأخرى للطب والفن وخلافه، عل ذلك يخفف من مصابه، وقد ينسحب الأمر على العديد من العلماء الذين قدموا نماذج للأسلحة الدفاعية والتي تسهم في تعزيز أمن المجتمعات وتحمي كياناتهم، وفي ذات الوقت تحولت بها العصابات وقطاع الطرق والمارقين على القانون بقتل الأبرياء والأطفال باستخدام تلك الأسلحة وتهديد أمن المجتمعات البشرية. ووسط ما ينوء به العالم من قلاقل وصراعات وحروب كان وراء أدوات الصراع رجال لم يكن في تصورهم أن اختراعاتهم ستكون بيد أولئك الأشرار، في حين اقتصرت أدوارهم على الابتكار والاختراع وجني حفنة من المال والجلوس في المقاعد الخلفية خلف الستارة المظلمة والتي غالباً ما كانت معمدة بالدم والنار. ويروج لتلك المخترعات أرباب تلك الصناعات،والذين احتلوا مواقع الصدارة،أوحتى في مفاصل صنع القرار أوالقدرة على التأثير الكبير والفاعل على صناع القرار، وترويج بضائعهم في الأرجاء، تارة في العلن وأخرى عبر ما بات يعرف ب (مافيات) تجارة السلاح حول الأرض. وللتعرف على أحد أبرز هؤلاء المخترعين كان لنا عدة لقاءات مع هذا الرجل في أبوظبي العاصمة الإماراتية التي عقد بها مؤتمر ومعرض الدفاع الدولي (آيدكس 2005 م) مع مخترع البندقية الآلية الروسية الشهيرة (كلاشنيكوف AK74) البروفسور (ميخائيل كلاشنيكوف) والذي يعتبره البعض قد فارغ الحياة منذ عقود أو أن وجوده الآن حيا يرزق بيننا ضرب من الخيال،والذي أعطى اسمه لبندقيته وبات العالم يعرفها بهذا الاسم، حيث عاش حياته منذ أن كان في مقتبل العمر في الظل، بين جدران ما كان يعرف بالستار الحديدي، بين أسوار الاتحاد السوفييتي السابق، على عكس ما ينعم به أقرانه ونظراؤه من المخترعين في العالم من أضواء ومال وشهرة، حتى انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أن شهرة بندقيته الآلية تجاوزت الآفاق، حيث استخدمتها معظم الجيوش في العالم،شرقه وغربه، وتغنى بها الثوار وكانت لهم خير رفيق،دون أن يدري أحد بمخترعها، وفيما إذا كان حتى حياً يرزق، وفي طريقي مقر جناحه الصغير في القسم الروسي في معرض الدفاع الدولي في ابوظبي، تزاحمت الأسئلة في الذاكرة،بعد أن قرأت ماكتب عنه في تقرير خاص عنه نشرته الصحافة الإماراتية تحت عنوان(كلاشنكوف في ابوظبي بدون سلاح)!!، ولما شاهدته وبادرني بتحية أفضل مما عندي، تواضعه كان أحد أسرار شخصيته الجذابة، ما أن جلسنا حول طاولته، تزاحمت الأسئلة أكثر وتاه بعضها؟ وقد هاتفني صديق وأنا بجانبه وقلت لصديقي هل تتصور من الذي بجانبي، هل تتوقع كلاشنكوف بجانبي، فرد صديقي مستهزئا بي، مالك أنت، عن أي عصر وتاريخ تتحدث وقلت هذة الحقيقة! وقد رد «كلاشنكوف» تحيته للصحفيين بابتسامته المعهودة أضاف للحديث طعماً آخر، وجواً من الود بعيداً عن الرتابة، فقال: ولدت لعائلة روسية فقيرة، تعمل في الزراعة والفلاحة، في ضاحية نائية تسمى (ألتاي) تبعد(250 كم) عن مدينة (برناؤول) القريبة من موسكو، وذلك عام (1919م)، بين ستة أخوة يمتهنون الزراعة، في الوقت الذي لم أكن أرغب في تلك المهنة، بل كان جل اهتمامي حب (الميكانيكا) والذي يشبع رغباتي وفضولي الكبيرين، وكان طموحي أكبر من سني، ونتيجة لما كنت ألاحظه من معاناة والدي في أعمال الفلاحة، وما يبذله من جهد، راودتني أفكار وطموح في أن أخترع لوالدي آلة ميكانيكية زراعية تخفف عنه ما يكابده لكسب قوتنا، وهكذا كان والدي يتمنى،ونتيجة للظروف العيش التي كنا نمر بها تلك الأيام لم يتسنى لي استكمال دراستي عند أول المرحلة المتوسطة، فالتحقت بالعمل في أقرب محطة سكة حديد، حيث كنت أتسلل للورش، وأنفذ بعضاً مما رسمته على وريقات بسيطة، حتى كانت الحرب العالمية الثانية، والتحقت أيامها في صفوف القوات البرية للجيش الأحمر برتبة (عريف) قائد دبابة، لنلتحق بالجبهة في مواجهة الألمان، وبعد أيام قليلة تعرضت لجروح متوسطة في أنحاء متفرقة من جسمي نقلت على أثرها إلى المستشفى الميداني لتلقي العلاج المناسب، وبعد أيام قليلة تم نقلي إلى مستشفى رسمي في إحدى المدن القريبة، وهناك سمعت الكثير من القصص من الجنود المصابين في الجبهة والراقدين معي في نفس المستشفى، حيث أجمع الجرحى على أن الجنود الألمان يستخدمون سلاحاً فردياً متطوراً ودقيقاً كان السبب في إصابة أعداد كثيرة من الجنود الروس، عندها تحولت أفكاري من صناعة ماكينة زراعية تعيل والدي إلى التفكير في ابتكار سلاح آلي فردي أكثر تطوراً من ذلك الذي يستخدمه الألمان، ليحمي زملائي ويحقق لنا التفوق في الميدان، عندها بدأت أضع الرسومات الأولية وأرتب أفكاري في مواصفات البندقية الآلية التي تحمي رفاقي في المعارك، وذكر البروفسور (كلاشنيكوف) أنه لم يكن خريج أكاديمية أوكلية عسكرية بل كان ما وصل إليه ثمرة الجد والمثابرة، وأضاف بعد أن انتهيت من أداء خدمتي العسكرية، التحقت بعملي السابق في سكة الحديد، حيث كنت أعمل سابقاً، وبدأت في التسلل خلسة إلى الورشة الفنية في مركز سكة الحديد بالاتفاق مع زملائي، حيث كان ذلك من المحرمات، ورغم الحذر الشديد ومساعدة الزملاء في توفير الجو المناسب من حولي فقد تعرضت للسجن ثلاث مرات عندما اكتشفت السلطات المحلية أمري. وأضاف الجنرال (كلاشنيكوف) بنبرة هادئة وبتفاصيل تنفرج لها أساريره تارة، ويعصف بالذاكرة تارة أخرى، أنه بحلول عام 1949 عرضت وزارة الدفاع (في الاتحاد السوفيتي السابق) على المخترعين المسجلين والمعروفين طلقة نارية من عيار 7،62ملم لتصميم بندقية آلية بمقدورها أن ترمي مثل هذه الطلقة، وتقدمت بالطبع بفكرتي من الرسومات والمخططات، مع الآخرين لإدارة التصميم في وزارة الدفاع حيث هناك فريق من المتخصصين والخبراء يتولون دراسة التصاميم والابتكارات المقدمة، وبعد الدراسة وقع اختيارهم على تصميمي وعند الإعلان عن ذلك، حيث كان عمري آنذاك لا يتجاوز ال (19) عاماً، أخذ ذلك مداه بين كبار المخترعين والمصممين، والتساؤل الكبير؟ كيف لعريف سابق في الجيش أن يفوز بهذا الاختراع، وتم استدعائي لتنفيذ ما قدمت، فقمت بتنفيذ الفكرة، وتم تجريبه ميدانياً من قبلي والخبراء، ليتم اعتماده للاستعمال من قبل الجيش الأحمر في نفس العام كسلاح فردي، وكذلك الأمر في الاستخدام لدى جيوش حلف وارسو(السابق) بعد أن أثبت السلاح فعالية قتالية عالية ودقة مجدية، ومنذ ذلك التاريخ أثبتت البندقية الآلية (كلاشنيكوف آي كي 47) فعالية تكتيكية ودقة قتالية عالية ونالت إعجاب الخبراء والعسكريين في أنحاء العالم. وقاطعه أحد الزملاء ورد بشئ من الجدية، أن تربيته ومنذ الصغر تركز على العمل والتفاني من أجل الكل ونبذ (الأنا)، وهذا الأصل في الموضوع، وقال هذا ما أؤمن به، وأعتز بهذا المبدأ، ولا يمكنني القول أو الادعاء بأن السلطات وعلى كافة المستويات وعبر تاريخي قد أهملوني، كيف أكون مهملاً وقد كنت عضواً في مجلس السوفييت الأعلى لست دورات متتالية منذ عام 1953م حتى الدورة الأخيرة التي سبقت تفكك الاتحاد واستقلال الجمهوريات وحل المجلس الأعلى. وأضاف الجنرال (كلاشنيكوف) أن نصيبه من الأوسمة والنياشين كان وافراً وعبر عن اعتزازه الكبير بها حيث يعتبرها من أغلى الثروات،حيث نال جائزة (ستالين) وهي أرفع جائزة تمنح في تاريخ الاتحاد السوفييتي السابق حتى أصبح اسمه كالأسطورة في كل الأوساط وخاصة بين زملائه المخترعين وخاصة أنه كان الأصغر سناً، وفي عام 1958م منحته الحكومة آنذاك أول وسام بطل العمل الاشتراكي «النجمة الذهبية» وعند اختراعه طلقات من عيار 5,45ملم منحته الحكومة أيضاً وسام النجمة الذهبية الثانية وبعد فترة حصل على الجائزة الذهبية الثانية «جائزة لينين». أما عن المقارنة بينه وبين نظرائه الغربيين فقال إن المخترعين في الغرب يتمتعون بالعديد من الحوافز والجوائز المالية وحسابات بأرقام عالية في البنوك، أما عن ثروته الذي يعتز بها دائماً فقال إنها تلك النماذج المختلفة من البندقية الآلية (أي كي 47) أما عن الدخل المادي الذي يتقاضاه فرفض مقارنته بالدولار في حين أكد أن الظروف المعيشية كما الآخرين ليست بالسهلة. وسأله أحدهم هل تراودك فكرة إنشاء جمعية أوالإعلان عن جائزة تحمل أسمك كما هي الحال في جائزة «نوبل»؟وهنا ابتسم وتململ وقال تراودني هذه الفكرة منذ زمن بعيد، وبدأت بخطوات جيدة عندما أتيحت لي الفرصة للقاء الأمريكي (يوجين أوستن) مخترع البندقية الأمريكية (إم 16) وآخرين خلال زياراتي لبعض الدول الغربية وطرحت تلك الفكرة على كل من التقيت، وأبدى معظمهم ترحيبه وإعجابه بالفكرة، ولكن يبدو أن الأمر ليس بيدي، ولوكانت لدي تلك الثروة المادية لما انتظرت ولما طرحت الأمر على الآخرين، وأضاف بقوله إنه لايمكننا إلقاء اللوم بالمطلق على السلاح، حيث لا غنى عنه، فبواسطته تقوم الجيوش بحماية الأوطان، وتنال الشعوب المقهورة والمستعمرة حريتها، ويحقق الثوار نجاح ثوراتهم في وجه المستبد، كما هي حاجة البشر لسكين المطبخ حيث من الممكن أن يستخدمه الأشرار في ارتكاب الجرائم، فاللوم إذا يجب أن يتم توجيهه للأشرار من بني البشر. وفي تعليقه لما يحدث الآن من صراعات وحروب قال إن ذلك ما يجر العالم إلى المزيد من الويلات والفقر والتشرد والمجاعة وضياع مقدرات الشعوب، وتمنى أن تصرف تلك الأموال على مشاريع التنمية وازدهار الأمم، وتمنى أن تتعايش الأمم والشعوب حول العالم في تآخ وسلام بعيداً عن الاقتتال وويلات الحروب والصراعات المسلحة. ويحتفل كلاشنيكوف في(10/11) من هذا العام بعيد ميلاده ال (86) حيث يتمتع بصحة جيدة وقدرة كبيرة على العطاء بروح الشباب، وذكر لنا باعتزاز أنه في عام 1994م شاركه الرئيس الروسي السابق (يلتسين) احتفاله بعيد ميلاده الخامس والسبعين فمازحه الرئيس آنذاك قائلاً له (روسيا هي الأم لنا وكلاشنيكوف هوالأب). وبشكل عرضي تعرفنا أن أحد أبنائه الدكتور (فيكتور مواليد عام 1942م) قد حقق المثل الشهير (فرخ البط عوام) حيث يعمل في نفس المصنع منذ عام (1967)الذي يعمل فيه والده وقدم ابتكارات متنوعة لطرازات البنادق الهجومية المتطورة ذات الاستخدامات المختلفة.