ياليتَ ذا القلبَ لاقى من يعلّلهُ أو ساقياً فسقاهُ اليوم سلوانا قالها عمنا جرير غفر الله له، وهو مستلقٍ على أحد أكثبة الدهناء، يراقب النجوم، ويتروّح ريح الصّبا، ويتذكر محبوبته التي هام بها، فتكاثرت عليه الهموم من كل جانب - كما يزعم - فتمنى لو أن أحداً يجالسه ويعلله بالأحاديث، فينسيه هموم حبه وعشقه وغرامه .. أو أن ساقياً يحمل ابريقاً فيسكب له كاساً مترعة من شراب "السلوان" كي ينسى همومه ووجده... وهذه هموم شاعر عليها ما عليها، ولست أزعم ان جريرا رحمه الله، لا تنتابه مثل هذه الهموم الغرامية .. فهو شاعر مرهف، رقيق الإحساس، سريع انسكاب الدمعة .. ينتابه ما ينتاب العاشقين، وتعتاده الهموم فتأتيه من تُحيتٍ ومن علٍ كما يقول " الشنفرى" ويسهر كما كان يسهر أمير الشعر القديم امرؤ القيس يراقب النجوم فيراها لطول ليله كأنها مربوطة بحبال مثبتة في جبل راسخ، فهي لا تتحرك ولا تتزحزح.. وكل أولئك الأقوام شعراء حقيقيون، يصابون في قلوبهم، ويطول سهرهم، كأن الليل قد بُدّل فأصبح سرمدياً مرعباً، حتى صار شاعرنا يخاطب الليل ونجومه في استغراب وفزع وجزع : أبُدِّل الليلَ لا تسري كواكبهُ أَمْ طال حتى حسبتُ النّجم حَيرَانا ؟! مسكين.. فقد خيل إليه أن الليل قد بُدل، وأن النجم أصبح حائراً مضيعاً لطريقه نحو المغيب .. كل ذلك بسبب همه، وولهه، وعشقه، وبسبب تلك التي طيّرت فؤاده معها لانها زارته ذات ليلة في منامه : طارَ الفؤادُ مع الخودِ التي طَرقَتْ في النّوم .. طيبةَ الأعطاف مبدانا ولكن أين هذه الخود المبدان طيبة الأعطاف منه ..؟ لقد زارته خلسة في نومته وهو على كثيب من الرمل في نجد .. أما هي فبعيدة هناك شرقي حوران في بلاد الشام .. وقد أتت ريح الشمال - برائحتها وذكرها : هبّت شَمالا فذكرى ما ذكرتكمُو عند الصفاةِ التيّ شرقيّ حَورَانا . وحوران من اهم مناطق الشام وأخصبها وتنسب إليها الصقور الحرة، فيقال : " طير حوران " للفتى النجيب، وللفارس الباسل وليس من جنس النعام التي تستأسد على شعوبها.. *** وقد انتابتني، وعاودتني هموم مثل هموم جرير، وأنا أقلب طرفي في نجوم السماء، ولكنها هموم أخرى، لا وجد فيها ولا عشق، ولا غرام ... وإنما هموم ألم يتراكم فوقه ألم .. ووجع يصب على وجع، وذلك بسبب تلك الفجائع، والمحزنات والمذابح اليومية، والغارات الاجرامية والمجازر الجماعية، والتي تقع في حوران، وأخوات حوران من بلاد الشام الكريمة.. فمن حوران انطلقت الشرارة، وفي حوران وقعت أولى المجازر البشعة .. التي تقشعر لها جلود الخنازير.. والتي يمارسها الجيش الاسدي الباسل في قتل شعبه بدعم من روسيا، وإيران، وبقية العصابة، التي تكدس السلاح بكل أشكاله وألوانه المحرمة والممنوعة .. تماماً كتلك الأسلحة التي استخدمها الرئيس الروسي "بوتن" في "غروزني" تلك المدينة المسلمة الوديعة، الرائعة، فحولها إلى خرائب، ودخان ورماد ... أستلقي وأراقب النجوم وأسأل .. لماذا ؟ وإلى متى سيظل هذا العذاب، وهذا القتل البشع، وهذه المجازر الفظيعة، والعالم كله يتفرج ؟! أين العالم الغربي النظيف النزيه ؟ أين حقوق الإنسان، ومنظمات العدل الدولية ؟ أين هيئة الاممالمتحدة ومجلس الأمن؟ أين.. أين؟ ولن أقول لكم أين جامعة الدول العربية فهذا جهل وسخف .. بل ذنب أستغفر الله منه!!... يتذرع العالم الغربي بأنه لا يريد تدخلاً عسكريا..!! وعجيب مثل هذا التذرع فروسيا، وإيران، وعصابات أخرى متدخلة تدخلا سافرا ومفضوحاً..!! ونحن لا نطلب تدخلاً من أحد فالشعب السوري يعرف كيف يدافع عن نفسه.. ولكن لماذا يمنع السلاح عن المقاومة، لماذا تمنع عنهم مضادات الطائرات، من الصواريخ التي كانت توزعها أمريكا مجانا على المقاتلين في أفغانستان أيام حربها مع الروس ؟ تلك الصواريخ التي تجعل الطائرات الروسية التي تدفع بها اليوم روسيا بسخاء إلى الأسد - تجعلها تتهاوى كالفراشات ..!! ** وتكاثرت الأسئلة على رأسي وأنا مستلق أراقب النجوم فقلت ماذا لو أن هذه المعارك الضارية، والطاحنة، التي يشنها الأسد على شعبه .. ماذا لو كانت فوق هضبة الجولان المحتلة .. هل سوف تدعمه روسيا، وإيران وبقية العصابة ؟! وهل سيصمت الغرب وجميع منظماته إزاء ذلك مثل صمته الرهيب المعيب اليوم ؟! كلا .. فهذا أولا لن يحدث .. ولو حدث وهذا افتراض تقتضيه المجادلة فقط - فإن الغرب كله سيثور وسوف يضربه ضربات فاقرة تطير رأسه وتجدع رأس حكمه وأنوف كل من يدعمه ويسانده .. والفاقرة "هي التي تكسر فقرات الظهر" وقد ذكرتني هذه الفاقرة بما فعله شاعرنا الموله جرير بالاخطل حين لقيه بالجولان ذاتها .. لاقى الأخيطلُ بالجولان فاقرةً مثلَ اجتداعِ القوافي وبْر هِزّانا *** ألقيت نظرة أخيرة على النجوم .. وقلت اعذرينا يا شام فإننا نتعذب لعذابك، ونبكي لبكائك، وندعو الله قياماً، وقعوداً أن يرفع عنك البلاء والشقاء .. بل نحن أشد فجيعة لأننا - يا حبيبتنا - نرى، ولا نفعل.. إلا أن نقتات الحزن، ونتجرع المرارات، ونردد ما كان يردده جرير في محبوبته مع اختلاف المأساة والبأساء ... لو تَعلَمينَ الذّي نَلقى أويتِ لنَاَ أَوْ تسمعيَن إلى ذِي العرش شكوانا