في الحلقة الأولى من هذا المقال كانت رؤية تاريخية قديمة تحكي معاناة الحجاج وهم يعبرون المفاوز والصحاري والقفار، ووسيلتهم هي الابل والدواب أو المشيء على الأقدام، وطرقهم محفوفة بالمخاطر، سواء من جغرافية المكان أو تسلط الإنسان. وقد تبدلت هذه المخاطر ولله الحمد فأنعم الله على الناس بوسائل أكثر سرعة وقدرة على النقل، حيث استوردت السيارات في الجزيرة. نتوقف قليلاً عند بداية استخدام السيارات لنقل الحجاج على شكل حملات خاصة يقوم بها متعهدون لذلك في أقاليم وقرى المملكة، فكانت البداية صعبة جداً، فالسيارات التي جاءت بها بعض الشركات التي كانت تعمل في البترول، وكذلك سيارات الحكومة التي استوردتها، كان بعض من لديه الرغبة في امتلاك سيارة يشتري منها كسيارات مستعملة من نوع ( اللوري ) الأمريكية نوع فورد ، بالوان مختلفة، أحمر أصفر أخضر أزرق أو سيارات الديزل الألمانية . ذات الموديلات ( 46، 48، 51، 52، 58.. الخ ) على سبيل المثال أي في الستينات الهجرية ( 1363ه ) على أن السيارات وجدت قبل ذلك وأنشئت محطات يدوية على الطريق من الرياض إلى مكة بخزانات مخفية محاطة بالأسمنت مطلية باللون الأبيض. وهذه السيارات يستخدمها أصحابها أساساً للتجارة والنقل للركاب والبضائع بين القرى والمدن، وهي مكلفة بالنسبة لهم جداً، من حيث القيمة لأنه يلزمها سائق يحمل رخصة ومعاون سائق يقوم بالخدمة ويكون لديه خبرة في صيانة الأساسيات فيها، والتي عادة تكون محتملة وتتكرر في معظم الرحلات والأسفار، وكثرا ما تعطلت الرحلة ليوم كامل أو يومين بين القرى. ومما يؤكد المتاعب أن الطرق لم تكن معبدة وقت بدايات استخدام السيارات بين المدن والقرى ولا حتى إلى مكةالمكرمة وإنما هي ترابية، وكانت بعض الطرق التي تسلكها تلك السيارات تعطى بعض الاهتمام من حيث إزالة بعض العوائق كالصخور وردم الحفر والجروف أو تسهيل بعض التلال التي لابد من وضع درب عبرها يقوم ببعض وصلاتها متطوعون من أهل القرى حول قراهم وبلدانهم، ويتخذ سائق السيارة عادة ما يرى أنه أسهل للسير عبره ويكون أقل خطورة بحسب تقديره سواء عبر الرمال أو الحزوم أو المنحدرات الأقل ضررا على السيارة والركاب، ومع هذا تتعطل السيارات في الصحاري أو تصطاد عجلاتها الرمال والأرض الموحلة من المطر، أو ينتهي وقودها. علما بأنه يتم الاحتياط لمثل ذلك بنقل برميل من البنزين أو الديزل كاحتياط، كذلك أقيمت في بعض البلدان على الطريق محطات للتزود بالوقود تكون على شكل براميل يسحب الوقود منها بأنبوب عن طريق السحب بالفم لتملأ به تنكة أو جالون، ثم تعاد الكرة مرة أخرى بسحب الوقود من التنكة أو الجالون إلى السيارة أما الطريق الرئيس إلى مكة من الرياض العاصمة فقد تم إنشاء محطات وقود على طوله كافية لتزويد السيارات بالبنزين (ينطقونها هكذا ينزيم). ويتقاضى صاحب السيارة أثناء قيامه بحملة الحج عن كل فرد مبلغاً من المال، كان في السبعينيات الهجرية وقبلها بقليل حوالي 100 ريال، وهو مبلغ ضخم، ولنعلم أن العديد من الناس غير موظفين ولا يملكون هذا المبلغ، وراتب المعلم وقتها في الشهر (250 ريال) أما أعداد الحجاج جملة في الستينات فلم يبلغ 70 ألف حاج. ويستعد كل حاج أو رفقة منهم بما يلزمهم من أكل، ومصاريف أثناء الرحلة، مالم يتفق على ذلك مع صاحب الحملة، ومما يتزودون به: الدقيق و القرصان، والتمر، والسمن، والقهوة وأواني الطبخ، وبالطبع قرب الماء على جوانب السيارة، وقل أن يأخذوا معهم لحوماً ولكن بعضهم يتزود بشرائح اللحم المجفف ( القفر) ولكنه نادر، أما في العودة من مكةالمكرمة فإن العديد من الحجاج يقدمون بشرائح اللحم المجفف الذي يحصلون عليه من لحوم الهدي والأضاحي حيث يملحونه في منى ويجففونه ثم يعبئونه في الخيش نصف مجفف ويقدمون به، كما يشترون من مكة ما يلزم من هدايا للنساء كالزيوت والدهانات والحناء خاصة وبعض الأقمشة، والحلي ولعب الأطفال. ويقتصد الحجاج جدا في أطعمتهم أثناء رحلة الحج سواء في الطرق أو في المشاعر لأسباب عديدة، منها: خفة حركة الحاج مع قلة الأكل، وزيادة مقدرته على التنقل كلما كان متخففاً من الشبع قليل الأكل، ومنها أيضا أن الأكل ليس هما لهم في رحلة تزدحم بالركاب والمشاركين في المكان والتنقل ، ولهذا يقال عن قلة كمية ما يتناوله الحاج ( وجبة حجاج ) كناية عن القدر اليسير والقلة، فصارت مثلا شعبياً يضرب للشيء القليل من المأكول. وإذا كان في حملة الحج رجال ونساء وهو الغالب قسم صاحب السيارة صندوقها ( اللوري ) إلى قسمين، علوي وسفلي بينهما فاصل يسمونه ( طبْقْ) والاسم للألواح الخشبية التي تقسم الصندوق فوق وتحت، وهذا التقسيم لا يأتي على كامل الصندوق من مقدمته إلى المؤخرة، ولكنه يتوقف عند ثلثي الصندوق ليترك فتحة في الأخير تعادل الثلث، وتكون النساء عادة في الأسفل والرجال في الأعلى ليسهل عليهن الصعود والنزول ولتعرض الأعلى للكشف وللهواء الذي لا يجعل الثياب تثبت، وتتوقف الرحلة لتناول الطعام والراحة بين فترة وفترة بحسب الحاجة وأوقات الصلاة ، ومرور السيارة من قرى وأماكن مناسبة للوقوف، وتقطع المسافة من الرياض مثلا إلى مكةالمكرمة في حدود أسبوع أما المشي على الأقدام فتستغرق وقتاً طويلاً ( كل 200 كيلو يقطع في 15 يوماً) وأما راكب الإبل فيقطع ( كل 200 كيلو في 4 أيام )، وقد تزيد كثيرا وتتغير كل الحسابات في حال حصلت بعض الطوارئ وأكثر ما يتعرض لها الحجاج مخاطر السيول والرياح والعواصف وغراز عجلات السيارات . ويسمح لكل حاج بنقل ما يخصه مما جرت العادة نقله في السفر، دون مقابل سواء في الذهاب أو الإياب، وما زاد عن الحاجة فيتم التفاهم على أجرته. ولا تخصص أماكن في السيارة لأحد خاصة الصندوق رغم تمايز بعضها من حيث الهدوء والحركة، ويتفاهم الركاب عادة مع بعضهم ويصبرون على بعض ما يضايقهم وتتبدل أماكنهم بحسب الركوب بعد كل استراحة وتوقف، ولا يحصل بينهم شحناء ولا شجار وإنما يكسبون بعد كل رفقة حج على صداقات وألفة تدوم بينهم و لعل هذه أيضا من مقاصد الحج تضاف للحكم الأخرى منه. ولم يكن غالبية الحجاج فيما مضى يكررون الحج، إلا من يقوم بالتوكل عن الآخرين بأجرة معلومة، أما الغالبية فهم يكتفون بحج الفريضة دون تطوع، وذلك للمشقة التي يعانون منها، وقالوا في الأمثال: ( من حج فرضه قضب أرضه )ويعنون بهذا من حج فليزم بلاده ويبقى في راحة من السفر، فلا سفر ملزم مثل الحج. ويجري مع قدوم الحجاج استقبال لهم واستبشار مصحوب بقلق حتى يطمئنوا أهليهم بأنهم لم يصب أحد منهم بأذى ولم ينقص عددهم من موت أو مرض حبسه، وتصاحب مواقف استقبالهم انفعالات من البكاء والابتسام والاستبشار مع العلم أن أهالي الحجاج وغيرهم ينتظرونهم في وقت ينتظر فيه عودة الحجاج وقد يتأخرون عن موعدهم يوما أو يومين أو أكثر لظروف المسافرين التي لا يعلم بها، وقد تستيقظ القرية وسط الليل أو قبيل الفجر على صوت سيارة الحجاج قادمة فتشعل أنوار السرج في كل بيت فرحا وسرورا بمقدمهم، ويكون الوضع غير عادي وكأنها ليلة العيد والأسواق والطرقات تصبح كما لو أنها نهاراً من كثرة من يمشي يسلمون على القادمين من أقربائهم ويهنئونهم بسلامة الوصول. ويصاب الحجاج في أيام وصولهم الأولى بإعياء شديد، ويظهر عليهم سمرة البشرة من الشمس وضعف في الأجسام من قلة الأكل وزيادة المجهود والحركة وأيضا تعب السفر وهم لم يتعودا مثل هذا السفر الطويل. ويطلق على من حج البيت الحرام في بعض البلدان خارج الجزيرة لقب ( الحاج) وهو لقب يتشرف به صاحبه، بل ويسمي نفسه الحاج لأنه أدى فريضة الحج، ولكنها لا تطلق مثل هذه الألقاب على حجاج وسط الجزيرة مثل نجد، وإن وجد فهو نادر جدا وفي قرون قديمة. ويقوم بعض الحجاج بزيارة لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة، وبعد الصلاة في المسجد يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقال لزيارة المدينة بأن الحجاج لأنهم ( تميدنوا ) أي زاروا المدينة، ولهذا يشترك بعض الحجاج على صاحب الحملة (حج وتميدن ) وأجرة ذلك أعلى من الحج فقط، ومن المعلوم أن المدينةالمنورة وزيارتها ليست داخلة ضمن شرط الحج ولكنهم يحبذون الزيارة لقرب المسافة قياسا بمكانهم الذي قدموا منه. وننقل هنا سطورا للأمير شكيب أرسلان، من كتاب الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، أوردها الدكتورمنصور الحازمي في كتابه رحلات العرب في جزيرة العرب. يقول: (ولقد شافهنا هناك يقصد الحجاز في سنة 1348ه الأهالي في الفرق بين حالتهم الحاضرة وحالتهم الماضية فأجمعوا على نعمة الأمن التي هم متمتعون بها الآن لم يعرفوا شيئا منها من قبل، لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم ولا سمعوا بها عن سلفهم ) انتهى. ولا ينتهي الحديث عن فريضة الحج وما لها من قدر ومكانة وما تعطاه من أهمية واهتمام، و كذلك الأمن والعدل وما لهما من ثمرة تنعكس على كل شيء وبها تستقيم أمور الحياة. ونختم بأبيات أولها للشاعر ناصر بن زيد بن شنار، عندما سافر أخوه سعد حاجاً مع رفاقه، يعبر فيها عن اهتمامه بأخيه وبمن معه ويصف شعوره وأحاسيسه، ويدعو لهم بالسلامة والعودة سالمين غانمين يقول في القصيدة : يقول اللي بدا في مرقب عالي عليه إعلان تعليته وهيض عبرة في الصدر كانيها هواجيس تزاحم في ضميري كنها العمدان دموع العين تبهل كن نو الصيف حاديها ألا يا عزتا للي سواتي بايت سهران وكل الناس نيام وعيني ما لجا فيها نحيب الصدر يسمعه الذي عندي من الجيران جميع اللي سكن نجد سمع حسي وأنا اتليها على حيلي و أساهر كل نجم لي ظهر فجران نجوم اللي زلت وأدبحت والصبح حاديها فتحت الباب وانهجت دواليب الفكر بالوان على المسحوب وهجيني وحربي بتاليها قريت الدرسعي والأبجدي مع صفحة الريحان ولا قراني مطوع يفهمني معانيها عديل الروح من سافر وحالي كنها العودان تناقص بالدقيقة كن راعي الدين حاديها أهوجس في ربوع مع عضيدي صايرين أخوان رجال كلهم درب المراجل قد ربوا فيها مشوا من عندنا عقب العصر من ديرة السلطان مشوا والقلب يبراهم مساء والصبح ومسيان إلى أن قال في دعائه لهم بالسلامة والعودة الحميدة: أنا يالله طلبتك يا ولي العرش يالرحمن وياللي ماسك سبع السماء والأرض داحيها تعافيهم جميع يالولي عن نزغة الشيطان ترجعهم جميع بالسلامة ثم تاليها ومن أعذب الأبيات قول شاعر يصف الشعور في البيت الحرام: ودي اني ماتعداك يالبيت الحرام ودي ان اعيش فيك العمر كله و أموت الله اكبر لا اذن المذن وكبر الامام واصبحوا زاكين الانفاس من خلفه صنوت وابتدأ يرتل ونظم بترتيله زحام وانتهى من ركعته وابتدأ يدعو قنوت الله الله الله الله على شعور الوئام جعل صوت ( ابن سبيل ) بعد مليون صوت يجعل بيوت الشياطين في عقلي حطام كن صوته ينتشلني معه من بطن حوت لاسمعته صغر الكون فعيوني وأنام وأمن إني مؤمن بما يقول بلا مقوت