لم يعد سراً نبأ المؤامرة الصهيونية الكبرى لدولة الاحتلال الإسرائيلي وحلمها الأكبر بكثير من حدودها نحو بناء دولة إسرائيل العظمى الممتدة أطرافها من البحر إلى النهر ومن النيل إلى الفرات. وأكبر دليل على سياسة التخطيط طويل الأجل التي تنتهجها الحركة الصهيونية هو ما نعايشه من حقيقة الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين وطرد وتشريد سكانها ومصادرة وتجريف أراضيهم؛ والإصرار على الاستمرار في عقيدة الاستيطان بغية تفتيت أي دولة فلسطينية مستقبلية (على أساس حل الدولتين)؛ والغزو الفكري والثقافي الممنهج ضد من بقي من فلسطينيي عام 48 داخل دولة الاحتلال (قرابة 2 مليون نسمة). ورغم السعي الحثيث للكيان الصهيوني والدعم الغربي غير المحدود له، إلا أن الواقع الذي نعيشه منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948م يعكس فشل الساسة الصهاينة ومن عاونهم في رسم مخططهم الرامي للسيطرة على أكبر قدر ممكن من جغرافية واقتصاد المنطقة العربية. إن الشواهد الناطقة على صمود الفلسطينيين ورباطهم في ساحات المعارك العسكرية والسياسية ضد الاحتلال الإسرائيلي كثيرة. فالفلسطينيون على اختلاف دياناتهم ومقار إقاماتهم متمسكون بهويتهم العربية الفلسطينية وبتراب وطنهم. وما انسحاب المحتل من قطاع غزة إلا شهادة تقدير وإجلال لما حققته المقاومة الفلسطينية المسلحة من نصر عسكري رغم إمكاناتها المحدودة مقارنة بجيش الاحتلال. وكذلك الاعتراف العالمي بالسلطة الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني وشبه الإجماع الدولي على فلسطين كدولة غير عضو في الأممالمتحدة يعد صفعة أخرى يوجهها النضال السياسي الفلطسيني، على ما به من خلل، لدولة الكيان الصهيوني. إن الباحث في الشؤون الفلسطينية، للأسف، يجد أن الحراك السياسي الناجح للسلطة الفلسطينية على الصعيد الخارجي يقابله فشل في أغلب الأصعدة الداخلية. فعلى سبيل المثال، الانقسام الفلسطيني- فلسطيني وما نتج عنه من ظهور حكومتين لشعب واحد، والفساد الإداري لبعض من أعمدة الحكومة الفلسطينية الرسمية، وأيضاً ما حدث مؤخراً من مواجهات بين الشرطة وبعض مواطني الضفة بسبب غلاء المعيشة وتدني الأجور وارتفاع معدلات البطالة. إن خطورة الوضع في فلسطين تكمن في أن السلطة الفلسطينية تعتمد بشكل أساسي على معونات خارجية من الدول المانحة وبعض الدول العربية. ونظراً للوضع الإقتصادي العالمي المتدهور وما ترتب عليه من وقف وتأخير للمعونات الخارجية، ناهيك عن تحكم إسرائيل المطلق باقتصاد الشعب الفلسطيني، فمن غير المتوقع للحكومة الفلسطينية الصمود طويلاً أمام هذه الموجة من الاحتجاجات المشابهة إلى حد كبير لموجات الربيع العربي، من دون تسهيلات إسرائيلية يصاحبها دعم مالي خارجي. إن عجز السلطة الفلسطينية عن تلبية إحتياجات شعبها والواقع المريرالذي يعيشه اللاجئون داخل وخارج فلسطين يشير إلى أن هبوب نسائم الربيع الفلسطيني أصبحت قاب قوسين أو أدنى. فتنامي ظاهرة الإعتداءات من قبل المستوطنين المتطرفين ضد الفلسطينين ودور العبادة، يبعث برسائل خطيرة مفادها فقدان الحكومة الإسرائيلية لزمام الأمن والسيطرة داخل حدودها. أما وضع اللاجئين الفلسطينين في الخارج فهو أكثر سوءاً وتعقيداً. فما فرار اللاجئين الفلسطينيين من مخيماتهم في سوريا، والذين يقدر عددهم حسب إحصائيات الأممالمتحدة بنصف مليون لاجئ، بعد مقتل العشرات منهم على يد نظام الطاغية الأسد والتمييز ضدهم عند إجراءات دخول النازحين منهم للبلدان المجاورة، إلا شرارت تنذر بقرب ساعة الصفر للربيع الفلسطيني. إضافة الى ذلك، فإن الأوضاع المعيشية المتردية للاجئين الفلسطينيين في الأردن والمقدر عددهم حسب وكالة الغوث في الأمم التحدة بثلاثة ملايين ونصف بين لاجئ ونازح، كفيلة هي الأخرى بإشعال شرارة الربيع الفلسطيني من عمان. وليس وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والمقدر عددهم حسب التقرير الذي أعدته منظمة التحرير الفلسطينية بنصف مليون لاجئ، ببعيد عن نظرائهم في الأردن. فالتقرير يزعم بأن اللاجيء الفلسطيني في لبنان يخضع لشروط خاصة حرمته الكثير من الحقوق الأساسية التي يحصل عليها أي لاجئ في بلدان العالم. هل سيتحرر الأقصى؟ لا أريد استباق الأحداث، لكن سرعة الوتيرة التي تسير بها المجريات على الساحة السياسية في دول المنطقة عموماً والهلال الخصيب خصوصاً تنبأ بانتفاضة فلسطينية-عربية ثالثة ينقصها القليل من الشرر وتنفجر. فكم وكم من ضربات تلقاها الفلسطينيون منذ بدء الاحتلال وحتى الآن؟ وعطفاً على المثل القائل "إن الضربات التي لا تقصم الضهر تقويه"، فإن من نتائج تلك الضربات أن بيت القيادة الفلسطينية بكل فصائلها قد عاد واكتمل من جديد. والشباب الراغبون بالتضحية بحياتهم ومستقبلهم من أجل حياة كريمة ووطن حر، بدأوا العمل كجزء من مسلسل الأحداث والانقلابات التي تجتاح العالم العربي. وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه اليوم بالأمس. فالموجة التي ركبها المحتل ودخل على إثرها أرض الإسراء والمعراج، هى نفسها التي ستقذف به من حيث أتى. فالترتيب الإلهي لوتيرة الأحداث في العالم من حروب وأزمات اقتصادية، وسقوط لأنظمة عربية محابية للكيان الصهيوني وقيام أخرى مناوئة، وتصدع البيتين الإسرائيلي والفلسطيني من الداخل، وكل ذلك من أحداث يذكرنا بصورة أو بأخرى بالإضطرابات والصراعات العالمية ما قبل قيام دولة الاحتلال الصهيوني، ويوحي بفتيل حرب من الممكن له أن يشتعل في أي لحظة. ولا ينبغي أن نغفل عن مدى عدة وعتاد الدولة العبرية، فلا ينكر التقدم العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي على الصعيد الإقليمي والعالمي إلا جاهل أحمق. ولكن علمتنا التجارب أن الاحتلال والتمييز العنصري دائماً مايخلفان ثمناً اقتصادياً- اجتماعياً باهظاً يدفعه المعتدي. لذلك وقبل فوات الأوان، يجب على الحكومة الصهيونية المتغطرسة استيعاب درس التاريخ جيداً، فتبعات ما يحدث الآن من متغيرات سياسية في المنطقة حتماً سيكون له تأثير مباشر على دولة الاحتلال والمنطقة برمتها. ولعل أحد المخارج من هذا المأزق يكمن في الإذعان لمبادرة السلام العربية التي تنادي بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة مطلقة عاصمتها القدس الشريف ويحكمها الفلسطينيون ومعترف بها عالمياً على حدود 1976م وإقرار حق عودة اللاجئين وانسحاب إسرائيلي كامل من هضبة الجولان، مقابل اعتراف عربي بما يسمى إسرائيل. * أستاذ مساعد للغة العبرية والترجمة بكلية اللغات والترجمة-جامعة الملك سعود