بين تغيير العُمران، وتغيير الأنظمة ضاع الإنسان! قلة هم الذين يتحدثون عن تغيير هذا الإنسان، مع أنه لب التغيير ومكمن صناعة التطور. لم نشهد أي شعارٍ يتبنّى تغيير الإنسان وتجديده وتوسيع مداركه ودفعه بشكلٍ أكبر إلى مضمار التقدم والتطور. يتغير الإنسان من خلال أخلاقه وأفكاره واتجاهاته وطموحاته. تغيير الإنسان أولى من تغيير العمران. ومع الأحداث العربية الأخيرة التي مر عليها قرابة العامين لم نقرأ في اللافتات واليافطات لوحةً واحدة تتحدث عن تغيير الإنسان نفسه، أي الخروج به عن الأمور التقليدية والكوارث العقلية والأدبيات القديمة. أن يخرج من التقوقع وضيق الصناديق، ولو كانت صناديق الاقتراع، إلى سعة الأفق وحرية التأمل والتفكير ليصل إلى إرادة التغيير وحلم التجديد. تغيير الإنسان هو المدخل لتغيير الحياة العربية وهو النشاط الأصعب. أنظمة كثيرة تغيرت لكن إنسانها لم يتغير ولهذا يعيد نفس الإنسان تشكيل طاغيةٍ من جديد، يقول المفكر والشاعر السوري أدونيس:"ليست المسألة أن تتغير الحياة العربية شكلياً، المسألة أن يتغير الإنسان العربي من داخل، من هنا وحسب، تبدأ أهمية العلم والتقنية، إننا نعيش النتائج الفاجعة لاهتمامنا طوال السنوات الخمسين الأخيرة بتغيير الحياة من خارج وإهمال الإنسان من داخل ... الإنسان في بنيته العقلية العميقة باقٍ لم يتغير ... شخصيته من داخل لا تزال كما كانت منذ خمسة عشر قرناً". الكلام الذي قاله أدونيس ينطبق بالطبع على الحال العربية بامتياز! إذا استعدنا التاريخ الفكري العربي خلال القرنين الماضيين سنجد أن الذين أرادوا تغيير الإنسان هم الذين تم نفيهم وتكفيرهم والهجوم عليهم مثل طه حسين، الذي كان يناقش الإنسان بدماغه وفكره، وبما يحمله من تصوراتٍ غير دقيقة عن اللغة والفن والأدب والفكر الديني. لكن الذين أرادوا-فقط- تغيير العمران أو الأنظمة كانت شعبيتهم جارفة، لنتأمل الفرق بين خلود إنتاج طه حسين مقابل انتهاء قيمة جمال عبدالناصر، لأن الأول راهن على الإنسان فيما الثاني مارس انقلاباً لتغيير نظام ولكنه لم يضف للعرب شيئاً، بل كانت الشعارات هي سيدة الموقف آنذاك. نحتاج إلى من يحرض على تغيير الإنسان لا على من يمارس الشعارات اللغوية فقط. في السطر الأخير؛ تغيير الإنسان أصعب أنواع التغيير، والثورة الحقيقية أن يثور الإنسان على فكره قبل أن يثور على نظامه، لأن تغيير الفكر هو المدخل الحقيقي لأي تغيير.