للعلاقة الزوجية قدسيتها بما يجعلها مميزة عن سائر العلاقات بين أفراد المجتمع، وقد اعتبرها القرآن الكريم (ميثاقاً غليظاً) تعبيراً عن رفعة شأنها وعلو منزلتها، نظرا لكونها تقوم على الامتزاج والتكامل بين الزوجين فى وحدة يرتضيانها، ويستهدفان صون مقوماتها ورعاية حدودها، بعيداً عما يعكر صفوها ويعرقل جريان روافدها.. وليس ثمة أكثر من الطلاق تهديدًا لبنيان الأسرة، وزعزعةً لاستقرار أكثر أفرادها تضررًا وهم الزوجة والأبناء. ولمّا كانت الشريعة الإسلامية قد أجازت للرجل تطليق زوجته بالإرادة المنفردة، وبمجرد التلفظ بما يفيد انعقاد نيته على طلاقها - مع أنّ الزواج لا ينعقد إلاّ بقبول الزوجة أو أحد أوليائها - فإنّ الطلاق لم يعد لدى بعض الرجال أبغض الحلال، بل بات أكثر الحلال الذي يمارسونه، حيث يتفرّد الرجل به، ويستغله أسوأ استغلال ضاربًا عرض الحائط بالطرف الآخر؛ الشركاء له في مؤسسة الزوجية، وهم الزوجة والأبناء! كما لم يعد الطلاق يُمارس من قبل أزواج مراهقين غير مسؤولين، بل صار يُمارسه رجال كبار في السن يعيشون مراهقة متأخرة، وهو الأمر الذي لم نشهده من قِبل آبائنا ومجائليهم، حيث كان الرجل كلما كبر في العمر، صار أكثر وفاءً والتزامًا بأسرته، وأكثر إشفاقًا ورحمة بالمرأة التي عاشت معه سنين عمرها، وقاسمته السراء والضراء ؛حيث بتنا نشاهد طلاق سيدات جاوزن منتصف العمر، بعد أن كبر أبناؤهن، وتزوج بعضهم، فلم يجد الزوج ما يكافئهن به بعد رحلة عمر مشتركة سوى النكران والجحود، وذلك للزواج مرة أخرى بشابة في عمر أبنائه. لا يعنيني هنا زواج الرجل الذي يعيش مراهقة متأخرة، حيث كثر هذا الأمر في السنوات الأخيرة مع تضخم ثروات بعضهم، وانفتاحهم على العالم المتحضر، وما فيه من مغريات في أعمار متأخرة، إضافة لما يعرضه الإعلام الفضائي من نماذج مختلفة لنسوة لم يعتادوا على رؤيتهن، ساعد على اقتران أولئك الشيبة بفتيات صغيرات، حتى إن بعضهم لم يتوانَ عن الاقتران بالخادمات الوافدات، أو يشدّ الرحال ألى أوطان تلك الخادمات النموذج، للزواج بأي نوع من أنواع الزيجات التي تفنن الفقهاء في اختراعها لهم . قلتُ كل هذا لا يعنيني هنا فهو كالمرض المستوطن الذي يصعب علاجه، ما يعنيني هو التنكر لشريكة العمر، وأم الأبناء عندما يرميها في قارعة الطريق، لأنه لا يوجد ما يمنعه من فعل ذلك، مثلما لا يوجد تشريع يجعل المرأة تأمن على نفسها من غدر الرجل الذي هو زوجها، إذ يُلقي عليها الطلاق متى ما أراد، ويسلبها كلّ حقوقها، دون أن يرفّ له جفن، فهو الرجل ولا سلطة فوق سلطاته ! فما الذي يحمي المرأة عندما تطلق وهي في سن كبيرة، ولا مورد مالياً لها، من وظيفة أو إرث أو أسرة تنفق عليها ؟ كيف تستطيع امرأة في هذا العمر أن تتقبل تغيير حياتها تغييرًا جذريًا، فبعد أن كانت تستقل في بيت خاص بها تجد نفسها في أحسن الأحوال حبيسة غرفة في بيت أسرتها إن كان قد بقي ذلك البيت، أو في بيت أحد أشقائها إن كان لها أشقاء ؟ وإلا فالشارع وحده الذي يفتح ذراعيه لاستقبالها. تحضرني هنا قصة " امرأة مسلمة تعيش في دولة غربية طلقها زوجها تعسفاً، بعدما قضت معه أربعين عاماً، تحملت معه أنواع البؤس والحرمان، وعندما تنامت تجارته طلقها، فلجأت إلى محكمة غير إسلامية، فحكمت لها بنفقة مدى الحياة، غير أنّ محامي الزوج طلب إحالة القضية إلى محكمة إسلامية، فجاء الحكم بنفقة ثلاثة أشهر فقط لا غير "!! ولكم أن تقارنوا بين الحكمين، حكم القاضي غير المسلم الذي راعى عمر المرأة وسنواتها التي قضتها مع ذلك الزوج، وثروته التي تنامت بوجودها معه، ونظرته الأبعد لما سيكون عليه مصيرها بعد الطلاق ولا مورد لها في ذلك العمر، وحكم القاضي المسلم الذي لم يأبه بكل ظروف المرأة وحكم لها بنفقة ثلاثة أشهر فقط بلا أدنى إحساس بالمسؤولية أو شعور إنساني.. بل ما هو رد فعل تلك المرأة ونظرتها إلى قاضٍ مسلم مقابل قاضٍ غير مسلم ؟ وهكذا فإن المطلقات اللاتي قضين سنوات أو عقودًا يسهمن في تأثيث بيت الزوجية وتنميته واستقراره يصبحن في نهاية المطاف بلا مأوى، وتتفاقم المعاناة عندما تكون المرأة غير عاملة، وثبوت عدم قدرتها المالية على شراء أو استئجار مسكن، أو عدم وجود مكان بديل كبيت أسرتها، وعندما تطلق امرأة في الاربعينيات حتى لو كان لديها شهادة جامعية وكانت قد كرست حياتها للبيت وتربية الأبناء، كيف ستجد فرصة عمل خاصة في ظل شحّ الوظائف لحديثي التخرج، وفي ظل غياب مؤسسات داعمة للنساء المطلقات ؟ إذن للمطلقة حق واجب يتفق مع العرف السليم، فإذا كانت مجتمعات اليوم قد تعارفت على راتب تقاعدي لموظفي الدولة ومكافآت نهاية خدمة، وكذا حقوق مالية للعاملين في الشركات والقطاع الخاص، مع أنّ هؤلاء جميعاً يتقاضون رواتب شهرية، وربما يصرف لهم بدل غذاء وسكن ونقل وعلاج، أفلا تستحق المرأة التي قضت عمرها كله دونما أجر، وانتهى بها المطاف إلى طرد باسم طلاق تعسفي، أن يفرض لها تعويض مادي يتناسب ودخل طليقها ومستواها الاجتماعي ومستوى المعيشة في البلد الذي يعيشان فيه ؟ فئة النسوة المطلقات فئة مهمة جدا فى مجتمعنا، لها حقوق يجب أن تُستنفر لها الجهود للتقليل من المشكلات التي تقع على عواتقهن وأبنائهن، وتكمن أكبر تلك الإشكالات فى الحياة الجديدة التي يفرضها الرجل على المرأة، وما تنطوي عليه من تغيرات، ومفاجآت، وأمور كثيرة لم تكن في الحسبان . لكن المجتمع الذكورى لا يؤمن في الغالب بحقوق المرأة المطلقة، ويشكل حياة الرجل والمرأة وفق منظومة غريبة التناول صعبة الفهم، عندما يعطي كلّ الحقوق للرجل المطلّق ليمارس حياته بكامل تفاصيلها، ويتمتع بما هو حقّ له وما ليس له بحقّ دونما معارضة اجتماعية، لكنه يضع كلّ محاذير الكون فى التعامل مع المرأة المطلقة حائلاً أو متقاعساً عن إقرار حقوقها، ومنع الظلم عنها وعن أبنائها! ويظل يشاهد معاناتها دون قدرة على اجتراح حلول تكفل صون كرامتها. أخيرًا إلى متى تظل المطلقة رهن أنماط سلوكية وممارسات ذكورية تمتهنها وتنزل بها لأحط درجة ؟ وإلى متى يظل المجتمع يقف من مشاكل المرأة المطلقة موقف المتفرج ؟ وإن تركنا كل ذلك وطرقنا الناحية القانونية، فكيف لا تحصل المطلقة على حقوقها إلا بعد معاناة ؟ وإن حصلت عليها تكون فُتاتاً تلقى لها من الزوج الذى أفنت معه سنوات عمرها، لذا لابدّ من إعطاء المرأة المطلقة طلاقاً تعسفياً تعويضًا مادياً، يتناسب ومستواها الاجتماعي ودخل طليقها، بما يحفظ كرامتها، وهو ما يعرف في الدين الإسلامي بالمتعة، و" هي تعويض للمطلقة على ما أصابها، وسبب وجوب المتعة هو الطلاق المستبد به من الزوج، ليرفع عنها وصف الإساءة، وهي بمثابة شهادة بأن الطلاق ليس لعلة فيها وإنما لعذر يخص المطلق، والحكمة من تشريعها هي جبر خاطر المطلقة من إساءة استعمال الزوج لحقه في الطلاق ". وقد وضع الفقهاء شروطًا أربعة لاستحقاق المتعة، وهي : أن تكون الزوجة مدخولاً بها في زواج صحيح، وقوع الطلاق بين الزوجين، أن يكون الطلاق قد وقع بغير رضا الزوجة، أن لا تكون الزوجة المتسببة في الطلاق . وقد اختلفوا فيمن تستحق المتعة على عدة أقوال فمنهم من خصصها ببعض المطلقات، ومنهم من قال باستحبابها للجميع، ومنهم من أوجبها لكل مطلقة، وبه قال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم، لقوله تعالي : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة (241) . فقد جعل الله تعالي في هذه الآية المتعة لكل مطلقة، وروى الإمام مالك في الموطأ :عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : " لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمسس، فحسبها نصف ما فرض لها " . وهذا يشمل المطلقة بعد الدخول .أما الظاهرية فذهبوا إلي القول بأنّ المتعة فرض على كل مطلّق، سواء كان طلاقه طلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، وسواء دخل بزوجته أو لم يدخل بها، وسواء فرض لها صداقاً أو لم يفرض لها، واستند الظاهرية في قولهم هذا إلي قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) البقرة (241)، وإلى قوله تعالى : (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ) البقرة (236)، فقد أوجب الله تعالى نفقة المتعة لكل مطلقة، ولم يخصص، وأوجبها - أي المتعة - حقاً لها على كل متقٍ يخاف الله تعالى . أخيراً فإنّ القضاء على الظلم ضد المرأة من أبرز ما تدعو إليه تعاليم ديننا، كما تدعو إليه منظمات حقوق الإنسان، والعديد من الهياكل الدولية في العالم أجمع، وذلك لتعزيز حقوقها وتدعيم مشاركتها في دوائر صنع القرار وفي كل الأنشطة التي تناط بها.