وصلت إلى هاتفك المحمول العشرات والمئات من رسائل التهنئة بعيد الفطر المبارك، وربما أكثر من ذلك، حيث يرى فيها البعض وسيلة مناسبة لتبادل التهاني، وتذكّر الآخر، والتواصل معه، وتحديداً ممن يصعب الوصول إليهم؛ نظراً لارتباطاتهم، أو سفرهم، أو بُعد مكانهم. ويبقى اللافت في تلك الرسائل أنها مكررة، ومنقولة، ومصطنعة أحياناً، وغير تلقائية المشاعر، ولا تعبّر أحياناً عن ثقافة ومكانة قائلها، ويبقى السؤال كيف تركنا إرثنا الأدبي في صياغة وكتابة الرسائل، وعجز كل واحدٍ منا أن يبدع في رسالته؟. وتتسم لغتنا العربية بخصائص تميزها عن سائر اللغات، ومن مزاياها ثراء مصطلحاتها، حتى كان "لكل مقام مقال"، فالتهنئة لها عبارات لا تليق إلاّ بها، وللأسف تقدمت وسائل الاتصال، وضاعت الكلمات الأصيلة في لجج العامية وتقليد اللغات الغربية الدخيلة على أساليب لغتنا الأم، واتسعت دائرة تقليد كثير من الشباب لكل ماهو دخيل ومستورد حتى ابتلعت عدداً من قواعد لغتهم وأسس التخاطب والمفردات المناسبة لكل مقام، فأصبحت اليوم للتهنئة لغة لا نعرفها، وديباجة لم نألفها، وطريقة يمجها الذوق السليم. ولعلها مصادفة جميلة أن يحرك العيد قواعد اللغة واختيار الجميل في عبارات التهنئة عبر الرسائل التي انتشرت بين المجتمع في عيد الفطر المبارك، فيما استخدم العديد من الشباب مصطلحات أدبية من كبار الأدباء العرب في التهنئة أمثال المرحوم "الرافعي" و"الأرناؤوط" و"العقاد" و"طه حسين"، وغيرهم. أوراق متفرقة وعرّف "عباس العقاد" الرسائل قائلاً: "الرسائل أوراق متفرقة فيها ودائع العمر، يموت عنها الإنسان ولا تسخو نفسه أن تموت قبله، ولا تنقل إلى حيث تفتح وتقرأ في مدخل كل أرض مطروقة، كما لا تودع عند أحد، فلا موئل لها أكرم من التمزيق أو نار الحريق"، مضيفاً "إذا كان بعض الأدباء في ساعات اليأس أقدم على حرق أعماله، فإنّهم يتفاوتون أيضاً في تعاملهم مع الرسالة، فمنهم من لا يريد أن يكشف عن عالمه الداخلي النفسي، ويحب أن يضع حاجزاً ضعيفاً بينه وبين الناس، لا في رسائله فحسب، بل في أدبه أيضاً، ومنهم من يفضل أن يكون قلبه صفحة مكشوفة للناس سواء في أدبه أو في رسائله". وفي الأدب العالمي احتلت الرسالة مكانة متميزة، فقد امتدت يد النشر إلى الكثير من الرسائل الخاصة التي كان الأدباء والعظماء يتخذون منها وسيلة للتواصل، وقد تحدث عن ذلك "البروفيسور ستارلنغ": "دراسة رسائل العظماء تبعث في النفس متعة كبيرة وقليل منا من يكتب قصصاً أو روايات أو قصائد، ولكنا جميعاً نكتب الرسائل، وتمتاز الرسائل الوجدانية الخاصة بأنّها تعبر عن شخصية كاتبها، فهو لا يتكلف ستر دخيلته كما يفعل في كتابته الموجهة إلى الناس، فهي تعد خير وسيلة للكشف عن أعماق النفس". وكشف "محمد التويجري" أنّ الكثير من الرسائل الخاصة لا تدخل في المشاعر والأحاسيس، بل تُعنى بأمور الحياة العامة، وهي على بساطتها لا تقل أهمية عن الرسائل الذاتية الوجدانية، إذ يتم الوقوف من خلالها على كثير من المعلومات، والمشكلات الاجتماعية، والاهتمام الثقافي، مبيناً أنّها من أهم الوثائق التي تحتفظ بها ويُتلذذ بقراءتها في الأعياد. نماذج متفاوتة وقد أتى استخدام الرسائل في التهنئة بالعيد بجملة من الفوائد كان أهمها الحفاظ على الموروث الأدبي العربي واختيار الجميل من عبارات التهنئة، أو تحوير العديد من المقتطفات الأدبية لكبار الأدباء إلى رسالة مميزة بمناسبة العيد، وقد تنال الجميع مختلف الرسائل عن طريق برامج التواصل الاجتماعية "واتس آب" و "بلاك بيري ماسنجر" بغرض التهنئة كان من بينها: * علمتني الحياة أن أحفظ الوفاء لأهل الوفاء، والتقدير لمن يستحقه وأن لا أنسى الأخيار أمثالكم، بخالص المحبة وصادق المودة "كل عام وأنتم بخير". * مابين حدائق بابل المعلقة إلى وجه بلقيس، وجدائل شعر كليوبترا، وعيني زرقاء اليمامة، وجلنار الإسكندر؛ أكتب إليك أنت رجل حضارة، وعيدك سعيد. * عدت اليوم لمقاعد الانتظار وحدقت طويلاً في الأفق الغائب وهمست في داخلي "بعد عينيك"، وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كلاً في طريق، من العايدين. وتعتبر الرسائل الطريفة أكثر ما يتداول في برامج ومواقع التواصل الاجتماعي للتهنئة في العيد، حيث يتم سنوياً ابتكار نص جديد يمكن اجراء تعديل بسيط عليه ليتناقله الجميع. * ويعمد الكثيرون إلى الاقتباس من الشعراء واختيار أبيات تناسب ما يرغبون من إيصاله من مشاعر، وكان مما تداوله البعض اقتباس من قصيدة للأمير بدر بن عبدالمحسن: صديق الليل.. لو تندم.. على جرحٍ تركته لي.. لا أنسي قلبك المسكين.. حبيب جرحك قبلي.. ولكن سكتك تحتار.. أبد.. بين الندى والنار.. وإلى منه قضى المشوار.. بدأ مشوارك الثاني.. *وتداول المغتربون والمبتعثون من الطلاب عدة رسائل أرسلوها لأهلهم وأصحابهم كان منها: (هآنذا أكتبُ لكم وتكتظَّ أنفاسي، يُلجمني بوحي فأربت على كتف الغرَق، وبدورانَات الأرضَ تستدير رحى أصابعي، عيدكم مبارك وكونوا الأجمل).