لم يهتم شعراء الأدب الشعبي بالناحية الفنية في إبداعه قدر اهتمامهم بطرح أفكارهم وفق سياق يختلف عن الكلام السائر، يتوخى الشاعر فيه حسن اختيار المفردات المؤثرة والمعاني الرفيعة التي تناسب المقام من حماسة وغزل ورثاء ووصف وغيره، وذلك خضوعاً لمدارس النقد التي يتركز اهتمامها على المعاني والدلالات والمضامين، وتكاد تنحصر رؤيتها النقدية على الكليات لا الأجزاء، وقد يستحضر الجزء للاستشهاد على معنى بعينه، إلا أن ذلك لا يعني تجاهل الجانب الفني كليا في القصيدة، لكنه اختلاف عما يحدث في أدب الفصحى الذي تراعى فيه الفنية الأدبية قبل المعاني والمضامين. ولئن اتفق اللونان (الشعبي والفصيح) في انهما تعبير عن قلق ومعاناة، وسعي لتفريغ شحنات تصاحب الضيق والقلق والمعاناة ما يؤجج مشاعر الإنسان ويدفعه للتحرر من الحصار النفسي الذي يقلقه. الشيء الذي يحرص الشاعر الشعبي على تجنبه هو تكرار ما أتى به السابقون ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتجنب ما يخالف المألوف من القول والعادات والعمل. وعشاق الشعر مولعون بالجيد منه، ذلك الشعر الذي يتضمن نصحاً دينيا أو أبويا مثل قصائد الوقداني وبركات الشريف أو يعبر عن حدث مؤثر مثل قصيدتي دباس وأبيه، أو يصور تقليداً مثل قصيدة القاضي في القهوة، وهناك من القصائد والمقطوعات القصيرة الموجزة التي تنقل لنا ردة فعل لموقف معين مثل قول الشاعر هزاع الشريف يخاطب جبل «مكسِّر» الذي أمته فتاته بأغنامها: يا «مكسِّر» نصاك الريم تَرْف القدم سارحاً بالغنم من يم ضلعان «ضاف» هو دخيلك من الرمضا وشوك السلم والظما لا يجي راعي الثمان الرهاف أو قول الشاعرة نورة الحوشان عندما مرت بمزرعة زوجها الذي طلقها، وعادتها ذكريات الوفاق، وموقفها بعد الطلاق فقالت: يا عين هلِّي صافي الدمع هلِّيه واليا انتهى صافيه هاتي سريبه يا عين شوفي زرع خلك وراعيه شوفي معاويده وشوفي قليبه من أولٍ دايم لرايه نماليه واليوم جيَّتهم علينا صعيبه وان مرني بالدرب ما اقدر أحاكيه مصيبة يا كبرها من مصيبه اللي يبينا عيَّت النفس تبغيه واللي نَبِي عيَّا البخت لا يجيبه ولقد شدا الشعراء بكثير من القصائد الشعبية الرائعة وألفوا على غرارها قصائد، مستدركين بعض الجوانب التي أهملها أولئك الشعراء؛ لأنها ربما لا تمثل لديهم أهمية، أو أن الشاعر الأصيل لا تغريه الإطالة مكتفيا بالاجمال، أو أن هذه الجوانب تمثل لدى الآخرين أهمية لا تعني السابقين، ومن ذلك قصيدة بركات الشريف التي ينصح فيها ابنه، ومع ذلك لم يكتب الانتشار لما جاء بعد قصيدة بركات إلا في نطاق محدود. ومثل ذلك كثير من قصائد الوعظ والنصح والتذكير بعواقب الأمور، ومن مشاكل التداخل في الشعر الشعبي اعتماد النقل على الشفهية والحفظ الذي قد يؤدي إلى اختلاف المفردات وتداخل الأبيات والقصائد وبخاصة القصائد المتوافقة في الوزن والقافية، وعامل الانبهار بأبيات أو قصائد يؤدي أحيانا إلى انتحالها من دون قصد، فقد يروي شاعر قصيدة في مجلس ما لشاعر آخر فيظن بعضهم أنها للراوية، أو قد ينبهر أحدهم بأبيات توافق حاجة في نفسه فيوظفها لقضاء حاجة له، إما باستخدام الأبيات أو بتضمينها أبيات له، وهذا يحدث لأشباه الشعراء. والناقد المتمكن يستطيع التمييز بين الشعر المتداخل من خلال قوة بناء الأبيات أو ضعفها، أو من خلال المفردات المستخدمة، والمعالم المذكورة من موارد وجباك وأعلام وزمان ومكان. وبهذه المناسبة أشكر الأخ عادي الشمري الذي عقب على استشهادي بأبيات وردت في بعض المطبوعات لسعد البلوي مؤكدا انها للشاعر شرعان بن رمال الشمري. ولأنني أجبت عن احتمال التعقيب في مقالي نفسه مشيداً بقصيدة شرعان، وذكرت أن لو اطلعت عليها من قبل لأشرت إليها في متن المقال، وما دعاني الآن لإثارة القول هو أمور منها: شكر الأخ عادي الشمري لأدبه وذوقه الجميلين وحسن تناوله وإتاحة الفرصة للقراء للاطلاع على قصيدة شرعان، وشكر (الخزامى) على حرص محرريها على مواكبة الأحداث وتقريب المسافة بين مقالي والتعقيب لتعزيز شاهدي على الندم وسوء التسرع والغضب ونتائج ذلك، وهم بذلك يؤكدون كفاءة الجريدة وجهازيها التحريري والتنفيذي. وأخيراً التوضيح أن البلوي كان يعيش في المنطقة التي كان يعيش فيها شرعان فهو يتنقل بين الديار في المنطقة الشمالية بين سكاكا والحفر وحائل والقصيم وربما كان معاصراً أو تاليا لشرعان ولا يوجد بين يدي الفترة الزمنية التي أمضاها البلوي هناك. وعلى أية حال، مشاكل القصيدة الشعبية كثيرة وحسبنا وجودها وعلينا السعي في تحقيق تأريخها وشاعرها.